هذه الافتتاحية بقلم المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب صاحب مجلة الفتح، وفيها عبر عن عواطف المسلمين إزاء مسلمي المغرب مستنهضا الهمم، كاشفا النوايا السيئة للاستعمار من غير لبس ولا مواربة، وكان هذا المقال تدشينا لحملة تحطيم هذا المشروع، ذلك أن الظهير البربري لم يكن إلا معولا أعدته الصليبية ضد الإسلام والمسلمين ببلادنا كما سيتبين.
ويؤكد المغاربة أن الظهير السلطاني لم يصدر بالطرق المشروعة المعتاد صدور أمثاله بها، وإنما نظمت مواده، وكتب في الإدارة الفرنسية، ثم دفع إلى رئيس الوزارة وجاء به هذا إلى دار المخزن (الحكومة السلطانية) ودعا إليه كاتب سره وكلفه أن يذهب إلى داره ويكتبه ويسجله في دفتر الصدارة العظمى. ولما انتهى من ذلك قدمه إليه فذيله بطابع الجناب الشريف، لأن الطابع السلطاني تحت يد رئيس الوزارة ولم يستعمله جلالته منذ تولى العرش.
وقد جاءنا من المغرب الأقصى ما يؤكد أن الحادث الجديد حلقة من سلسلة تتألف منها خطة مرسومة لتنصير المغرب الأقصى، وكان الابتداء من البربر لأنهم تتألف منهم الأكثرية الساحقة، ولأن سوادهم الأعظم ليس لهم من التهذيب الديني ما تكون لهم المناعة الكافية لدرء خطر التنصير.
والذي يرجع إلى مؤلفات بعض الفرنسويين وتصريحات غير واحد من رجالهم يرى العجب العجاب من دعوى أنهم إنما جاؤوا المغرب الأقصى لينقذوا البربر وينتقموا لهم من العرب الذين احتلوهم وسلبوهم المسيحية من أفئدتهم، وأنهم عاملون على إرجاعهم إلى حظيرة الكثلكة والصليب.
وما لنا وللأقوال فإن الأعمال أفصح منها لسانا وأبلغ بيانا يدل على ذلك افتتاح الفرنسيين مدارس في أوساط البربر خالية من كل ما يذكرهم بالعربية والإسلام. وهذه المدارس منها ما هو للبنين ومنها ما هو للبنات، ويؤتى بالبنين والبنات إلى هذه المدارس بجميع الوسائل، وقد يكون ذلك على خلاف رضى آبائهم.
وفي هذه المدارس يتلقون مبادئ الفرنسية والدروس المسيحية، وفي كتب المطالعة تمجيد للمسيحية، وتأليه لفرنسا، وشتم بالعرب وتنقيص من كرامة المسلمين.
وقد أقفلت الكتاتيب التي كانت منتشرة وسط قبائل البربر وكان مبنى التعاليم فيها على تلاوة كتاب الله الحكيم، وتلقي مبادئ الدين الإسلامي القويم، ولم يكتفوا بإقفال هذه الكتاتيب، بل أقصوا أيضا فقهاءها..
أيها المسلمون:
إنكم تستقبلون حربا صليبية لا تعد حروب زمن صلاح الدين جانبها شيئا مذكورا، لأننا في زمن صلاح الدين كنا مع الصليبيين وحدهم وجها لوجه، وأما الآن فرجالنا يكتبون الظهير الشريف ويسجلونه في سجلات حكومتنا الإسلامية ويختمونه بطابع الدولة الإسلامية، كل ذلك تحت جنح الظلام، فالحرب الصليبية في داخل القلعة لا في خارجها.
أيها المسلمون:
إن الحرب الصليبية الماضية كانت بالسيف والترس، فكان حقا على صلاح الدين ورجاله أن يقاوموها بالسيف والترس. وأما الحرب الصليبية العصرية فإنها بالمدارس والمؤلفات وبالدسائس وبالدعايات. وكل ذلك يحوم حول هدم الإسلام من قلوب المسلمين، ومن الواجب على المسلمين أن يقابلوها بمثل سلاحها فيبدءوا من سلاح المدارس بإنشاء مدرسة واحدة تكون فيها جميع مزايا أرقى مدارس الدنيا، وتكون مع ذلك إسلامية على أتم وجه، وويل للمسلمين إن عجزوا عن ذلك أو ادعوا العجز.
وأن يبدءوا من سلاح المؤلفات بكتابة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بالشكل اللائق بمكانة هذا الرسول الأعظم والمصلح الأكرم، فإن لغات الدنيا كلها خالية إلى الآن من كتاب في سيرة هذا الحبيب الرؤوف الرحيم تليق بعظمته، بل نحن فقراء حتى من تاريخ للإسلام، وتواريخنا وضعت على قاعدة “كلما دخلت أمة لعنت أختها”، وإن لنا ماضيا شريفا طاهرا مجيدا لو كان لأمة من أمم أوربا لسجلت حقائقه بلسان شريف طاهر مجيد يليق بعظمة ذلك التاريخ، ولكن أين المؤرخون الأوفياء لهذا الماضي، هذا في سيرة نبينا وتاريخ ماضينا، وأقول مثله في شريعتنا فإنها تحتاج إلى أن تكتب بأسلوب يحسن بنا أن نخاطب به أهل هذا الزمن، فإن كتبنا الحاضرة كتبت بغير أسلوب عصرنا، إن الحقائق واحدة، ولكن التعبير عنها يجب أن يكتب في كل عصر بلسان ذلك العصر.
أيها المسلمون:
شجعوا الدعوة الإصلاحية المعتدلة الواقفة بين طرفي الجمود والجحود، فإن الإسلام قام على الاعتدال، ودين الله بين الغالي والمقصر.
بادروا إلى تأسيس جريدة يومية كبرى تتجنب العداوات الحزينة، وتستعين بها على ترسيخ العقيدة في نفوس ناشئتها، فإذا تأسست تلك المدرسة ونجحت كانت فاتحة مدارس كثيرة من نوعها.
بادروا إلى تأسيس جريدة يومية كبرى تتجنب العداوات الحزينة، وتتخطى الاختلافات المذهبية وتحتقر الأنانيات الشخصية وتحطم جميع الأصنام الكاذبة، وتكون للإسلام وحده ولأهل القبلة جميعا، فإن الإسلام وأهله في حاجة إلى صحيفة من هذا القبيل تكون كأكبر صحيفة عربية في الدنيا، ولو تكلف المسلمون في سبيل تأسيسها عشرات الألوف من الجنيهات.
أيها المسلمون:
إن الوقت سائر بسرعة السيارات والطيارات، وإن العاملين على إزالة الإسلام من الوجود يسهرون الليالي إلى الصباح في رسم الخطط، وإعداد الرجال لتنفيذها، وتأييد هؤلاء الرجال في تحقيق مهمتهم، وأنتم في غفلة عن خططهم لا تشعرون بها حتى بعد تنفيذها.
اتقوا الله في أنفسكم، فإنكم محاسبون على كثرتكم يوم تعرضون على الله أنتم وأهل بدر، فيقول الله لكم إن الواحد من أهل بدر بألف ألف شخص منكم، ومع ذلك لا تستحون من أن يذل الإسلام تحت رايتكم، وقد أعزه أهل بدر لأنهم كانوا -على قلتهم- قوما صادقين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتاب “الحركة الوطنية والظهير البربري” لجامعه ومؤلفه الحاج الحسن بوعياد (ص: 31-32-33).