فقه الفاضل والمفضول

بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهاديا لهم، يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، مع العلم أن الأصلح للعبد والأفضل مطلقا ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، فإن خير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إلا أنه على سبيل التفصيل فإن الأفضل في حق المرء يختلف ويتنوع إما بحسب أجناس العبادات: فإن جنس الصلاة مثلا أفضل من جنس القراءة.
أو بحسب اختلاف عمل الإنسان الظاهر: كالذكر والدعاء في الركوع والسجود فهو المشروع دون القراءة.
أو بحسب اختلاف الأمكنة: مثاله المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها.
أو بحسب اختلاف الزمان: فإن الأفضل في وقت السحر الاشتغال بالصلاة والذكر والدعاء والاستغفار دون غيرها من الأعمال.
أو بحسب اختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.
ولذا فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وترك مستحبا تارة، باعتبار ما يترجح من المصلحة فعله وتركه بحسب الادلة الشرعية.

وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل فيكون أفضل في حقه كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد.
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة النافلة ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، بل الشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له وتارة هذا أفضل.
قال السعدي رحمه الله: “وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم، وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة فما ندم من استشار، وادرس ما تريد فعله درسا دقيقا، فإذا تحققت المصلحة فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” الوسائل المفيدة 28.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين، لكونه عاجزا عن الأفضل أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه وإن كان جنس ذلك أفضل” الفتاوي 24/198.
ومن دقائق هذا الباب أن من الناس من يضره العمل بالأفضل، ومن ثم لا يصلح له في حقه معرفته، كأن يكون غير قادر عليه وهو متشوف إليه، فيحصل من جراء ذلك الإعراض عن الفاضل والمفضول جميعا فتنبه، أو كأن يخوض فيما هو أفضل وهو لا طاقة علمية أو عملية له على ذلك، فيفسد حاله من حيث يريد إصلاحها فتأمل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “فأكثر الخلق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقا، إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به بل يتضررون به إذا طلبوه، مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك فإنه قد يفسد عقله ودينه” الفتاوي 19/119.
وخلاصة بنيان هذا الباب قائم على أربعة أصول وهي:
أحدها: معرفة مراتب الحسنات والسيئات ليعرف خير الخيرين وشر الشرين.
الثاني: معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب وما يستحب من ذلك وما لا يستحب.
الثالث: معرفة شروط الإيجاب والاستحباب من الإمكان والعجز ونحو ذلك.
الرابع: معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم، يؤمر كل شخص بما هو الأصلح له في حالته من الطاعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *