لقد قامت الحضارة الغربية في جانبها الفلسفي على مبدأي الإلحاد والإباحية، وكان للحركة الصهيونية دورها الأساسي والبارز في ترسيخ هذين المبدأين، وتعاهدهما بالصيانة والحماية.
ولطالما حار هذا اللوبي المهيمن على السياسة الحاكمة؛ في كيفية مواجهة تفشي ما يناقض ذانك المبدأين من تدين وممارسات تعبدية، وسبب تلك الحيرة أن المعارضة الفعلية لذلك تتنافى مع شعار الحرية والإخاء والمساواة الذي رفعته الثورة الفرنسية، ويتنافى مع الديمقراطية التي اعتبرها الغرب رأس القيم الإنسانية، والشيء المقدس الذي لا يمكن الإخلال به.
فالحرية تقتضي السماح للمرأة بأن تلبس ما شاءت، والإخاء والمساواة يستلزمان المنع من التمييز ضد الإنسان بسبب شكله أو لباسه فضلا عما فوق ذلك، كما أن الديمقراطية تخول للمرأة أن تختار ما شاءت من لباس وغيره، واتفاقية رفع التمييز ضد المرأة تمنع التفريق بين امرأة وأخرى بسبب اللباس..
فهذه المبادئ كلها تم تجاوزها بادعاء مضحك، وهو أن تغطية المرأة لوجهها يعد إهانة لها ومسا بكرامتها.
وبعيدا عن هذا التهريج السياسي نود أن نسجل -في هذا الموضوع- تأملات للحقيقة والتاريخ:
التأمل الأول: سياق وسباق
يأتي هذا القرار في سياق تنامي العداء والكراهية ضد الإسلام وشريعته في العقد الأخير، بعد أحداث 11 شتنبر؛ وفي هذا محطات:
16 شتنبر 2001: بوش يعلن حربا صليبية
2002: شن الحرب على أفغانستان
2003: شن الحرب على العراق
2005: البابا الحالي يدشن الحملة بإصدار كتاب يحوي الطعن في الإسلام، والتخويف من انقلاب أوروبا بلدا إسلاميا
2005: نشر الدانمارك للرسوم المسيئة للمسلمين في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم.
2006: تكريم فرنسا للمرتدة البنغالية تسليمة نسرين، ومنحها جائزة (سيمون دي بوفوار).
2007: تكريم بريطانيا للمرتد الإيراني سلمان رشدي، ومنحه لقب فارس من الملكة (اليزابيث الثانية).
2008: خطاب للبابا يتضمن سب القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة ذاتها؛ شن الصهاينة حربا إرهابية ضد غزة على مرأى من حكومات أوروبا وأمريكا، بعد إخضاعها لحصار غاشم لا يزال مستمرا، وما نقموا منهم إلا أن اختاروا (الإسلاميين) لحكمهم ..
2009: تكرار نشر الرسوم في دول أوروبية أخرى.
2010: حظر المآذن في سويسرا، وحظر النقاب في القانون الفرنسي والبرلمان البلجيكي.
هذا كله يُسَوّغه الظالمون بأحداث 11 شتنبر، مع أنه لم يصدر إلى الآن حكم قضائي يثبت التهمة ضد فئة معينة.
ولو ثبت أنها من فعل فئة من المسلمين، فهذه الفئة تمثل نفسها وفكرها الضال، وهي شذوذ في العالم الإسلامي.
فكيف يظلم مليار ونصف مسلم بسبب جناية حفنة من المنحرفين؟
وهذه المواقف العدائية جعلت التيار اليميني –ذا التوجهات النازية العنصرية المتطرفة- يتفشى، وقوي نفوذه في أكثر الدول الغربية (ديمقراطية) وحرصا على التعايش وتعدد الأعراق؛ مثل: سويسرا والنمسا ..
التأمل الثاني: تعليل عليل
علل ساركوزي في خطابه عن النقاب –30 يونيو 2009-قرار الحظر بقوله: (إن النقاب يحرم المرأة من كرامتها)
وهذه مناورة مكشوفة وتعليل غير واقعي، والغرب الإباحي والرئيس الفرنسي ينبغي أن يكونوا آخر من يتكلم عن هذه الكرامة؛ لماذا؟
لأنهم أغرقوا المرأة في أوحال الإباحية ودسوا كرامتها في تراب المجون والعهر، وقد سمحت قوانينهم بنشر مئات الملايين من صفحات المواقع الإباحية ..
فلماذا لا يحظر القانون الفرنسي انتشار الصور الإباحية -في المواقع والقنوات والمجلات- حفاظا على كرامة المرأة؟
أليس عدد عاهرات الأفلام الجنسية وغيرها أكبر من عدد المنتقبات بكثير؟
ألا يعلم الرئيس الفرنسي بأن بلده يصدر آلاف الصور الإباحية؟ وأن عدد بائعات الجنس في بلده يتراوح بين 15000 و18000 مومس حسب إحدى الدراسات المعتمدة على تتبع ميداني؟
بينما لا يتجاوز عدد المنتقبات (2000).
فالأسباب الحقيقية لحظر النقاب هي: “صيانة الإباحية والعلمانية”، “كراهة الإسلام وشريعته”، “تدارك الفشل السياسي والتزلف إلى الرأي العام”.
إن العقل العلماني يصعب عليه أن يفهم مسألة “العبودية في اللباس”، لأن العلمانية لا تقر بربانية أحكام الشريعة الخارجة عن مجال الطقوس والشعائر التعبدية، ولا تدرك أن للخالق أحكاما على لباس الإنسان، وإن كانت من قبيل: “وجوب ستر العورة”، و”وجوب الحجاب”، فكيف إذا كانت من قبيل: “وجوب النقاب”، و”تقصير الثوب”؟!…
التأمل الثالث: في موقف حكومات الدول الإسلامية
وهو ما ينبغي أن يظهر في شكل اعتراض على هذه الإجراءات من جهة أنها تمس بحكم شرعي متفق عليه بين المذاهب الفقهية الإسلامية كلها، التي أجمعت على مشروعية تغطية المرأة لوجهها وجوبا أو استحبابا.
ومن جهة أنها إجراءات تتنافى مع مستلزمات الاتفاقية الدولية في عدم التمييز ضد المرأة بسبب اللباس.
ونحن نعلم أن بعض الساسة والمسؤولين في البلدان الإسلامية يميلون من حيث رغباتهم الداخلية إلى استحسان المواقف المعادية لتغطية المرأة لوجهها، ويكرهون هم بدورهم شيئا اسمه النقاب أو البرقع أو ما شابههما، ولا غرابة في ذلك ما داموا يشاركون الساسة والمسؤولين الغربيين في الإيمان بمبادئ وثقافة العلمانية والإباحية التي لا تلتقي مع مبادئ الشريعة التي منها: الترغيب في الستر ومظاهر الحياء.
ومع هذا يلزمهم شرعا وديمقراطية أن يدافعوا عن حق المرأة المنتقبة وأن يفرضوا احترام اختيارها وإرادتها
التأمل الرابع: في موقف الانهزاميين وضحايا الاستلاب
لقد نجح الغرب من خلال ترسانة إعلامية وتعليمية جبارة في أن يزعزع قناعات كثير من المسلمين وأن يستميلهم إلى تصوره في كثير مما تراه عند الكثيرين منهم؛ كاستساغة تبرج المرأة واستحسان مظاهر العري، في مقابل الاشمئزاز من النقاب وأشكاله؛ فالواحد منهم يهش ويبش لرؤية المرأة التي تكشف عن فخذيها وشيء من ثدييها، في الوقت الذي يتمعر وجهه حين يرى امرأة منتقبة لا يظهر شيء من بدنها.
إن عقلية الانهزامي ونفسيته تضطره للتبرأ من أحكام دينه التي يكرهها الغير، كما أنه سرعان ما يتكون له الرأي ذاته والشعور نفسه، بل يصير أشد كراهية لمن يطبق ذلك الحكم، بحيث يصفه بأقذع الأوصاف وأقبحها ..
وهو حال بعض المستلَبين الذين قاموا يدعون إلى حظر النقاب في البلاد الإسلامية كما فعلت فرنسا!
وإذا كان هذا الحظر معللا وغير مستغرب من الغرب المعادي للإسلام، فكيف نفهم دعوة “جريدة الأحداث المغربية” لاستنساخه في بلدنا المسلم؟؟
ولو أن الأمر تعلق بحظر التبرج في دولة إسلامية –مثلا- لقامت قيامة هؤلاء، واتهموا تلك الدولة بالإرهاب والتزمت وانتهاك الحريات والديمقراطية.
التأمل الخامس: النقاب بين الأمس واليوم
لا يسع المنصف إلا أن يستنكر الموقف المريب للجنة المرأة التابعة لهيئة الأمم المتحدة وما يدور في فلكها ويتبنى مبادئها من منظمات وهيئات وجمعيات التي هيمن على موقفها الرضى بهذا الحظر، وعدم اعتبار المرأة المنتقبة إنسانا حرا له اختياره، كما اعتبروا المرأة العاهرة إنسانا حرا مختارا.
كلنا يستحضر كيف استعمل القوم ورقة الحرية حين حاربوا الحجاب والنقاب في البلاد الإسلامية، وكيف تجندت أقلام المستغربين من كتاب وسياسيين لخدمة هذا الهدف، وكيف تعاضدت الجهود لإقناع المرأة المسلمة في مصر وتونس وتركيا والمغرب وغيرها من دول العالم الإسلامي بأن خلع النقاب سلوك سليم لأنه من مستلزمات مبادئ الحرية والديمقراطية.
فلماذا لا يناضلون النضال ذاته من أجل تلك المبادئ حين تستعمل في سبيل اعتبار انتقاب المرأة سلوكا سليما.
التأمل السادس: التذكير بحكم الهجرة
وهو من الأحكام الشرعية التي يتجاهلها كثير من المسلمين، ويجهلها أكثرهم.
وإذا كنا نعلم أن شرعنا يقر: “السفر إلى بلاد الكفر للحاجة”، و”التعايش السلمي مع اليهود والنصارى غير المحاربين”، كما يحث على “الاستفادة من الغير وتبادل المنافع معه”، فينبغي أن نعلم –أيضا- أن من أحكامه: “وجوب الهجرة إلى بلاد الإسلام”، الذي يتأسس على نصوص من القرآن والسنة، بيَّن معانيها فقهاء المذاهب الأربعة .
ومن فوائد تطبيق هذا الحكم فيما نحن بصدده؛ أن فيه سلامة من هجمة المعادين الحاقدين الكارهين للإسلام وشريعته، المضيقين على العاملين بأحكامه في اللباس وغيره ..
التأمل السابع: أين حراس الحدود؟
وفي الختام نتساءل عن موقف علماءنا الصريح في قضية حظر النقاب وما قاموا به على المستوى السياسي والتربوي في نصرة حكم الله في تغطية المرأة لوجهها، الذي اتفق فقهاء المالكية على أنه يتردد بين الاستحباب في الأحوال العادية والوجوب عند عدم أمن الفتنة.
فهل صدرت منهم بيانات بهذا موجهة إلى القادة الذين تولوا كبر حظر النقاب؟ وهل قاموا بالتوعية الوطنية بهذا الحكم الشرعي؟ وهل بينوا للشعب المغربي أن النقاب من العادات المغربية الأصيلة التي اجتهد الاستعمار في محوها؟ وأنه حكم شرعي لا ينبغي معاداته بدافع الهوى والتشهي؟