لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ثقافتنا الإسلامية هي علاجنا الروحي الوحيد

كلما نظر الإنسان نظرة بحث وفحص إلى درجات الرقي التي بلغها السلف، ودركات السقوط التي انتهى إليها الخلف، يجد ارتباطا تاما بينهما وبين نوع الثقافة التي كانت شائعة بين الأوائل وضائعة بين الأواخر، فأجدادنا السابقون كانوا في منتهى العزة والرفعة والإشراق عند ما كانت ثقافة الإسلام مسيطرة عليهم في الظاهر والباطن، وأحكامها نافذة بينهم في البيت والشارع والسوق والمحكمة وفي كل شأن من شؤون حياتهم الفردية والعائلية والاجتماعية، بينما آباؤنا اللاحقون، مع من بعدهم من المختلفين، أخذوا يتدهورون في مهاوي السقوط، ويتيهون في مهامه العمياء شيئا فشيئا، بقدر ما كانوا يبتعدون عن ثقافة الإسلام العالية، وينسلخون من روحه الطاهرة، حتى وصل بهم الحال إلى أقبح مصير وأشنع مآل.

وجاء عهد السيطرة الأوربية والإشراف الغربي العتيد فزاد الطين بلة، والطنبور نغمة، إذ سمم الغربيون بروحهم وثقافتهم وأخلاقهم وعوائدهم ونظرتهم إلى الحياة -عن قصد أو غير قصد- الأجيال المسلمة الجديدة، فانطلق شباب هذه الأمة من فتيان وفتيات، يركضون ليل نهار وراء الشهوات، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأصبحوا مضرب المثل في الشهوانية والمادية والإباحية الأخلاقية والفكرية والاستهتار بالمبادئ السامية، كل ذلك إيمانا منهم بأن الغرب لم يمسك بيده مقاليد العالم إلا بما يملكه من هذه الروح المادية الحادة، والشعور الشهواني الجامح، فذلك هو -في نظرهم- سبب نجاح الغربيين وبسط سلطانهم على الأرض، والضعيف مغرى بتقليد القوي، والمغلوب مولع بمحاكاة الغالب.
والواقع الذي لا جدال فيه أن الغرب لم يملك زمام الأمر والنهي في البشرية عن طريق هذه المبادئ السافلة التي تشعبت بها ناشئة المسلمين، وإنما ملك ذلك بوسائل أخرى من علم الكون والكشف عن أسرار الطبيعة، والتشبع بروح المغامرة والعمل والنظام، مع استعمال التضحية والإقدام في مواطنهما، والإقبال على كل ما فيه نفع، ولو كان مستحيلا أو في حكم المستحيل في نظر الكثرة من الناس، ومعنى ذلك أن الغرب أدرك ما أدرك من الرقي والرفعة بنفس الخصائص التي أدرك بها أسلافنا ما أدركوا عندما كانوا في أوج الحضارة والثقافة، فهذه هي الأشياء التي يحسد عليها الغرب اليوم، وهي التي يصح أن يقلد فيها على فرض أنها خصائص غربية لا إسلامية، أما الناحية الروحية والاجتماعية عند الغربيين فهي أضعف النواحي، وهي أقلها قيمة وفائدة بالنسبة إلينا نحن المسلمين، لأن ثقافتنا الإسلامية في هذا الباب لا تزال هي أرقى الثقافات وأعلاها وأكملها، وأقربها إلى تحقيق الإنسانية بمعناها الصحيح، وإذا ضيعنا ثقافتنا التقليدية، وضحينا بها في سبيل ما يقابلها من ثقافة الغرب الغربية، فإنما نكون بذلك مساعدين على انتحار شعبنا، وفناء أمتنا، والويل كل الويل لمن ساعد على انتحار الأفراد، فضلا عن انتحار الشعوب.
نحن لا نعارض مطلقا في أن تدرس طائفة منا كافة العلوم والمعارف على الصورة الجديدة التي بلغ إليها تطور العقل البشري حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن عند الغربيين، ولا نعارض في أن نحيط علما بموازينهم ومقاييسهم ومعاييرهم واصطلاحاتهم في كل فرع من فروع المعرفة، لكن لا لنندمج في الغرب ونفني فيه، ونضحي بثقافتنا الخاصة على مذبحه المقدس.. كلا، وإنما لنربط سلسلة المعارف البشرية بعضها ببعض، فنصل الحلقة التي انقطعت منذ عهد الأجداد القديم، بآخر حلقة وصل إليها البشر، مع الاحتفاظ بشخصيتنا الإسلامية في كل شيء، بيحث تكون روحنا تشعر شعورا إسلاميا؛ ويكون عقلنا يفكر تفكيرا إسلاميا؛ وتبقى عواطفنا عواطف إسلامية صرفة؛ ويظل سلوكنا سلوكا إسلاميا خالصا؛ ونخلق من مجموع ذلك كله مزاجا متناسبا متناسقا لا تنافر فيه لا تناقض.
وفق ذلك كله يجب أن يبقى لثقافتنا الإسلامية كيانها الخاص، وحرمتها القديمة، ومكانتها اللائقة، إلى جانب ما يراد الاستفادة منه من أنواع الثقافات الأخرى، بحيث لا نقبل جميعا على هضم الثقافة الغربية وحدها، أو نعطيها أكبر قسط من الجهد والوقت والدراسة، على حساب ثقافتنا الأصلية الخالدة، حتى يمكن أن تطغى عليها في يوم من الأيام، وينشأ بين أظهرنا جيل “مستغرب” لا يؤمن إلى بالغرب، ولا يستمد إلا من الغرب، ولا ينشر سوى ثقافة الغرب!
إن مصلحة الأمة تفرض علينا دائما وأبدا أن نعمل على حفظ التوازن بين الطوائف والأفكار والمبادئ والثقافات المتعددة في بلادنا، حتى لا يستبد جانب بآخر، ولذلك لا يصح أن نوجه شبابنا وطلابنا أجمعين في تيار الثقافة الغربية وحدها، أو في تيارها بصورة تجعل حظها أقوى من حظ ثقافتنا الخاصة، بل يجب أن نوجه قسما غير قليل إن لم يكن الأكثرية المطلقة من طلابنا وشبابنا نحو ثقافتنا الإسلامية العربية بالخصوص، فهذه الثقافة هي خلاصة كل ما في الإسلام من روح وتهذيب، وتربية وأخلاق، وتقاليد وأنظمة تشمل جميع مناحي الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية، وهي بحق دستور الحياة الإسلامية الذي ينظم كافة العلاقات بين المسلمين تنظيما في منتهى الدقة والعدل والإحكام، ولا نقصد من توجيهنا هذا أن تتكون طبقة من الشباب تقصر همها على حفظ فروع الثقافة الإسلامية واستذكار مسائلها، بحيث تكون كالببغاء أو الحاكي، وإنما نريد أن تتكون طبقة من الشباب تتنسم عبير الإسلام، وتسلك سلوكا أخلاقيا يلائم تهذيب الإسلام، وتظهر على ملامحها ووجوهها سيما الإسلام، وينعكس من أعمالها وماجريات حياتها واوان تفكيرها شعاع الإسلام، فذلك ما تحتاج إليه البلاد احتياجا أكيدا في كل الأوقات، ولاسيما في فترتها الانتقالية الحاضرة، والتي توجد فيها الأمة على مفترق الطرق..
…فثقافتنا الإسلامية المقدسة هي العلاج الروحي الوحيد لما انتابنا من الأمراض والعلل، الفكرية والخلقية والاجتماعية، الظاهرة والباطنة، وهي وحدها صلة الوصل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي أثمن تراث تركه السلف أمانة في أيدينا، وبدونها لن تقوم لنا قائمة على وجه الأرض ولو بلغنا في العلم الغربي والثقافة الغربية درجات المكتشفين والمخترعين والعباقرة الغربيين الأفذاذ، و”لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”!
مقال للشيخ المفسر محمد المكي الناصري
الوحدة المغربية العدد 306- السنة 7
29 رمضان 1362/30 شتنبر 1943
اختصره: أحمد السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *