إنه تساؤل من حقنا أن نطرحه؛ خاصة أن السائد في الساحة الإعلامية والثقافية والفكرية؛ أن هذا المطلب هو مطلب جماعات إسلامية معينة؛ وهي إما جماعات متطرفة تفهم النصوص فهما حرفيا جامدا؛ أو هي جماعات توظف الدين وتستخدمه لبلوغ أهداف سياسية وأيديولوجية.
ولطالما كـُرر هذا الكلام على المنابر الصحفية بشتى ألوانها وأشكالها؛ الخاصة منها والعمومية؛ وغيب في المقابل الجواب عن هذا السؤال المهم بدعوى أن من يطرحه هم متشددون أصوليون؛ أو حركيون وصوليون!
علما أن الأمر بخلاف ذلك تماما؛ فمطلب تحكيم الشريعة هو مطلب كل مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ يتلو قول الحق جل في علاه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} الجاثية، وما المذاهب الفقهية وتقريراتها والنوازل الشرعية وتحريراتها إلا تجسيد عملي لحكم الشريعة الذي دام أكثر من ألف عام؛ ولم يفقد المسلمون هذا النظام الرباني العادل إلا بعد سقوط الخلافة ودخول الاحتلال معظم بلادهم.
وإذا كان الفصيل الاستئصالي يحصر مطلب تطبيق الشريعة في القوى المحافظة التي يسميها بالظلامية والرجعية؛ فإن الدارسين والمختصين من الغربيين يعلمون جيدا أن هذا مجرد قول فئة قليلة موالية للثقافة والسياسة الغربية؛ ولا يمثل هذا التوجه على الإطلاق السواد الأعظم في بلاد المسلمين.
وأعجبني قول ناثان ج. براون -عن معهد كارينجي-؛ في الدراسة التي جعلناها أرضية لهذا الملف؛ أن من يدعي أن التعاليم الإسلامية لا علاقة لها بالحياة العامة هو كمن يدّعي من الساسة الأميركيين أنهم يفضّلون “الطريقة غير الأميركية” على الطريقة الأمريكية.
فمن يرضى من المجتمعات أن يفرض عليه غيره نظاما للحكم يخالف ما نصت عليه مرجعيته الدينية أو الفلسفية أو الوثنية أو أي كانت؛ الكل سيقاوم سوى العلمانيين الذي يروجون لطرح المتغلب المستقوي بالعتاد والسلاح والاقتصاد.. ويجعلون نظامه خلاصة ما وصلت إليه البشرية في مجال التشريع!
وعلى أي؛ فمطلب تحكيم الشريعة الإسلامية ليس مطلب جماعات إسلامية وصولية أو أصولية؛ بل هو مطلب علماء المغرب ومفكريهم والنخبة المخلصة من أبناء هذا الوطن وغيره.
فهذا الزعيم علال الفاسي خريج القرويين رحمه الله؛ يقول في كتابه (دفاع عن الشريعة الإسلامية): إن الإسلام عقيدة وشريعة؛ ولذلك لا يقبل منا أن نكتفي بالإيمان بالله ونصلي ونزكي ونقوم بالحج والصيام وفعل المبرات، ولكنه يطالبنا بأن نفعل ذلك ونفعل معه تطبيق أحكام الشرع في معاملاتنا وفي قضايانا وإدارتنا وحكومتنا..
وما شرعت الدولة إلا لمصلحة الدين؛ وما جعلت الخلافة إلا لتنفيذ أحكام الشريعة. ومهما كان النظام الذي تسير عليه الأمة المسلمة في عصورها وبلدانها فالذي يهم ليس هو الشكل، ولكن هو الدستور الذي تسير عليه، والقانون الذي تحكم بمقتضاه. ولا يقبل الإسلام أن يكونا خارجين عن نطاق أصول الشريعة التي جاءت بها المصادر الشرعية وهي القرآن والسنة الصحيحة قبل غيرهما.
ولا يتصور الإسلام فصل الدين عن الدولة، لأنه إذا فصل عنها وجب أن تزول ويبقى هو. والإسلام يعتبر الدولة خادمة للناس والناس مجموعة من أفراد ولا يتصور الإسلام أن يكون الفرد المسلم منفصلا عن الدين. وتبعا لذلك لا يتصور أن يكون المسلم النائب عن الأمة المسلمة يدبر أمورها بغير الشرع؛ ولا الوزير أو الملك أو رئيس الجمهورية يمضون على غير ما يفكر به نواب الأمة وما ترضى عنه الأمة المسلمة وهي لا ترضى -إذا كانت ما تزال مسلمة- بغير أحكام الشريعة. اهـ كلامه رحمه الله.
وفي مؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقد بالمملكة العربية السعودية سنة 1977م، عرض الشيخ محمد العبدلاوي ممثل رابطة علماء المغرب في المؤتمر آنذاك بحثا بعنوان: “وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل زمان ومكان”؛ أكد فيه أن هذا الموضوع كان من اهتمامات السادة العلماء منذ استرداد المغرب سيادته واسترجاع استقلاله أواسط الخمسينات؛ إيمانا منهم أن فترة الاستعمار التي دامت زهاء أربع وأربعين سنة كان المستعمر؛ سواء منه الفرنسي في الجنوب أو الإسباني في الشمال؛ يهدف من وراء ما يسن من قوانين وتنظيمات إلى إفراغ الشخصية المغربية من محتواها الحقيقي وتجريدها من قيمها ومقدساتها لتعيش في فراغ روحي وعقائدي.
بل ذهب المستعمر الفرنسي إلى أبعد من ذلك حيث استصدر مرسوما يقسم منطقة نموه إلى شطرين تقفل فيه المحاكم الشرعية وتعوض بأخرى عرفية تحكم بما جرى به العرف والعادة لدى السكان، وافق شريعة الإسلام أو لم يوافق، وشطر تكون -محاكمه الإسلامية- خاضعة في تسيير قضايا المدنية والجنائية والمعاملات التجارية والاقتصادية المعروضة عليها إلى التقنينات الوضعية الداخلية التي لا تتفق مع منطق الشريعة ورأي الإسلام أحيانا.
ولا يخفى على السادة المستمعين خطورة هذا التقسيم وأبعاده فهو من جهة يهدف إلى فصل جزء كبير من الشعب المغربي عن دينه وعروبته وأصالته بقصد تجنيسه وتنصيره، ومن جهة أخرى يريد أن يضرب المغرب في وحدته العقائدية والتاريخية والاجتماعية التي تجمع بين العرب والبربر منذ الفتح الإسلامي.
ولذلك كان رد فعل المغاربة -عربا وبربرا- قويا وسريعا فقد خرجوا في مظاهرة عظيمة قاصدين جامع القرويين وبيوت الله ومرددين اسم الله اللطيف “اللهم يا لطيف نسالك اللطف فيما جرت به المقادير. لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”…
وكانت هذه الحادثة بداية انطلاق الحركة الوطنية التي آمنت أن المس بالشريعة الإسلامة مس بكرامة الأمة وسيادتها.
وبانتهاء عهد الحجر والحماية طالب الشعب المغربي وفي طليعته العلماء بتصفية الرواسب الاستعمارية الضاربة جذورها في المحاكم العرفية وغيرها وبإحلال الفقه الإسلامي محل كل التشريعات والتنظيمات التي لا تتفق وروح الإسلام.. واتخذوا مواقف صريحة في المؤتمرات وكل المناسبات حول وجوب الحكم بما أنزل الله وتطبيق شريعة القرآن، إيمانا منهم بأن الغاية من الكفاح السياسي، هو الرجوع إلى حظيرة الإسلام..
..فالمغرب عرف في تاريخه الطويل بقوة إيمانه وسلامة عقيدته وحدبه على شريعته، شريعة الله في أرض الله حتى في أظلم عهود الاستعمار؛ فكان إذا حدث خلاف بين شخص وآخر هتف كل منهما (أنا بالله والشرع) أي أنا معتصم بالله وراض بحكم شريعة الإسلام. اهـ كلامه. (مجلة دعوة الحق: العدد 9 السنة 18 شوال 1397/أكتوبر 1977 الصفحة 54)؛ انظر موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
فمطلب تحكيم الشريعة الإسلامية واجب شرعي؛ كما أكد ذلك العلماء والسياسيون الوطنيون؛ لا مطلب سياسي يطمح إلى تحقيقه الأصوليون والوصوليون.