والناس كالنّبت فمنهمْ رائقٌ … غضَّ نضيرٌ عوده مرُّ الجنى
ومنهُ ما تقتحم العين فإن … ذقت جناه انساغ عذباً في اللها
يقومُ الشارخُ منْ زيغانهَ … فيستوي ما انعاجَ منهُ وانحنى
والشّيخ إن قومتهُ منْ زيغه … لمْ يقم التثقيفُ منه ما التوى
كذلك الغصن يسيرٌ عطفه … لدناً شديدٌ غمزهُ إذا عسا
من ظلمَ الناس تحاموا ظلمهُ … وعزَّ عنهم جانباه واحتمى
وهم لمنْ لان لهم جانبه … أظلمُ من حيّاتٍ أنباثِ السّفا
عبيدُ ذي المال وإن لم يطمعوا … منْ غمره في جرعه تشفي الصدى
وهم لمنْ أملقَ أعداءٌ وإن … شاركهم فيما أفاد وحوى
عاجمتُ أيامي وما الغرّ كمن … تأزرَ الدَّهرُ عليهِ واعتدى
لا يرفعُ الّلبُّ بلا جدَّ ولا … يحطُّكَ الجهل إذا الجدُّ علا
منْ لم يعظهُ الدَّهر لم ينفعه ما … راحَ به الواعظ يوماً أو غدّاً
من لم تفدهُ عبراً أيامهُ … كان العمى أولى به من الهدى
منْ قاس ما لم يره بما يرى … أراهُ ما يدنو إليه ما نأى
منْ ملكَ الحرصَ القيادَ لم يزل … يكرعُ منْ ماءِ من الذُّلّ صرى
منْ عارض الطماع باليأسِ رنتْ … إليه عينُ العزّ من حيث رنا
منْ عطف النَّفس على مكروهها … كان الغنى قرينه حيثُ انتوى
من لم يقف عند انتهاء قدره … تقاصرت عنه فسيحات الخطا
منْ ضيع الحزم جنى لنفسه … ندامةً ألذع من سفع الذَّكا
من ناط بالعجبِ عرى أخلاقه … نيطت عرى المقتِ إلى تلك العرى
منْ طالَ فوقَ منتهى بسطته … أعجزه نيل الدُّنى بله القصا
من رام ما يعجزُ عنه طوقهُ … مِلْعِبْءِ يوماً آض مجزول المطا
والناس ألفٌ منهمُ كواحد … وواحدٌ كالألف أن أمرق عنى
وللفتى من ماله ما قدمتْ … يداه قبل موتهِ لا ما اقتنى
وإنما المرءُ حديثٌ بعده … فكن حديثاً حسناً لمن وعى ” كَانَ لضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ابْنَانِ يُقَال لأَحَدهمَا سعد وَالْآخر سعيد، فَخَرَجَا فِي طلب إبل لَهُ، فلحقها سعد فَرجع بهَا، وَلم يرجع سعيد، وَكَانَ ضبة يَقُول إِذا رأى شخصا تَحت اللَّيْل مُقبلا: (أسعد أم سعيد). فَذَهَبت مثلا فِي مثل قَوْلهم: أنجح أم خيبة، أخير أم شَرّ.
ثمَّ خرج ضبة يسير فِي الْأَشْهر الْحرم وَمَعَهُ الْحَارِث بن كَعْب، فمرا على سرحة، فَقَالَ الْحَارِث: لقِيت بِهَذَا الْمَكَان شَابًّا من صفته كَذَا، فَقتلته وَأخذت بردا كَانَ عَلَيْهِ وسيفاً، فَقَالَ ضبة: أَرِنِي السَّيْف، فَأرَاهُ فَإِذا هُوَ سيف سعيد، فَقَالَ ضبة: (الحَدِيث ذُو شجون). مَعْنَاهُ أَن الحَدِيث لَهُ شعب، وشجون الْوَادي شعبه، وَيُقَال لي بمَكَان كَذَا شجن، أَي: حَاجَة وَهوى.
فَقتل ضبة الْحَارِث، فلامه النَّاس وَقَالُوا قتلت فِي الشَّهْر الْحَرَام، فَقَالَ: (سبق السَّيْف العذل) فأرسلها مثلا، وَمَعْنَاهُ قد فرط من الْفِعْل مَالا سَبِيل إِلَى رده. قَالَ الفرزدق:
وَلَا تأمنن الْحَرْب إِن اشتغارها … كضبة إِذا قَالَ الحَدِيث شجون
من الأمثال لابن سلام.
فوائد
“الصُّبْحُ أوَّلُ النَّهارِ. الغَسَقُ أوَّلُ اللَّيْلِ. الْوَسْمِيُّ أوَّلُ المَطرِ. البَارِضُ أوَّلُ النَّبْتِ. اللُّعَاعُ أوَّلُ الزَرْعِ. اللِّبَأُ أوَّلُ اللَّبنِ. السُّلافُ أوَّلُ العَصِيرِ. البَاكُورَةُ أوَّلُ الفَاكِهَة. البِكْرُ أوَّلُ الْوَلَدِ. الطَّلِيعَةُ أوَّلُ الجَيْشِ. النّهَلُ أوَّلُ الشُرْب. النَّشْوَةُ أوَّلُ السُّكْرِ. الوَخْطُ أوَّلُ الشَّيْبِ. النُّعَاسُ أوَّلُ النَّوْم. الحَافِرَةُ أوَّلُ الأَمْرِ وهيَ من قَولِ الله عزَّ وجلَّ: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} اَي في أوَّلُ أمرِنا. ويقال في المثلِ: النَّقْدُ عند الحَافِرَةِ. أي عندَ أوَّلُ كَلِمةٍ. الفَرَطُ أوَّلُ الوُرّادِ وفي الحديث: “أنَا فَرَطُكُمْ على الحَوْض” أي أوَّلُكُمْ. الزُّلَفُ أوَّلُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَاحِدَتُهَا زُلْفَة. الزَّفيرُ أوَّلُ صَوْتِ الحِمَارِ والشَهِيقُ آخِرُهُ. النُّقْبَةُ أوَّلُ ما يَظْهَرُ من آلجرَبِ. العِلْقَةُ أوَّلُ ثَوبِ يُتَّخَذُ للصَّبيِّ. الاسْتِهْلالُ أوَّلُ صيَاحِ المولودِ إذا وُلِد. العِقْيُ أوَّلُ ما يَخْرُجُ من بَطْنِهِ. النَّبَطُ أوَّلُ ما يَظْهَرُ مِنْ ماءِ البئْرِ إذا حُفِرَتْ. الرَّسُّ والرَّسِيسُ أوَّلُ ما يَاْخُذُ مِنَ الحُمَّى. الفَرَعُ أوَّلُ ما تُنْتِجهُ الناقَةُ وكانت العَرَب تَذْبَحُه لأَصْنامِها تَبرُكاً بِذَلك. صَدْرُ كلِّ شيءٍ وغُرَّتُهُ أوَّلُهُ. فاتِحَةُ الكِتاب أوَّلُهُ. شَرْخُ الشَّبابِ ورَيْعَانُه وعُنْفُوانُهُ ومَيْعَتُهُ وغُلَوَاؤُهُ أوَّلُهُ. رَيْقُ الشَّبابِ وَرَيِّقُهُ أَزَلُهُ. رَيِّقُ المطَرِ أوَّلُ شُؤبُوبِهِ. حِدْثانُ الأمْرِ أَوَلُه” من فقه اللغة للثعالبي.
سحر البيان
قال حاتم طيء:
عَرِيتُ عن الشَّبابِ وكنتُ غَضّاً … كما يعرَى عن الورَقِ القضيبُ
ونُحْتُ على الشَّبابِ بدمعِ عيني … فما نفَعَ البكاءُ ولا النَّحيبُ
ألا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً … فأُخبِرَهُ بما فعَلَ المشيبُ
وهذه أبيات متفرقة من جواهر مرثية أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المَنِيّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَها، … أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
وَتَجَلُّدِي للشّامِتِينَ أُرِيهمُ … أَنّي لِرَيبِ الدّهْرِ لاَ أَتَضَعْضَعُ
وَالنّفْسُ رَاغِبَةٌ إذا رَغّبْتَها، … وإذا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
نظرات في الأدب فسحة الواحة
قال ابن قتببة رحمه الله في مقدمة أدب الكاتب: “ونحن نستحبُّ لمن قَبل عنا وائتمَّ بكتبنا أن يؤدِّب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذِّب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصونَ مُروءَته عن دناءة الغِيبة، وصِناعته عن شَيْن الكذب، ويجانب -قبل مجانبته اللحنَ وخَطَل القول- شنيع الكلام ورَفَثَ المَزْح.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولنا فيه أُسوة حسنة- يمزح ولا يقول إلا حقاً، ومازَحَ عجوزاً فقال: “إن الجنة لا يدخلها عجوز”. وكان في عليٍّ عليه السلام دُعَابة، وكان ابن سِيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لُعابه، وسئل عن رجل فقال: توفى البارحة، فلما رأى جزع السائل قرأ: “اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها والَّتي لمْ تَمُتْ في مَنَامِها”. ومازح معاوية الأحنف بن قيس فما رؤُي مازحان أوقر منهما، قال له معاوية: يا أحنف، ما الشيء المُلَفَّف في البِجَادِ؟ قال له: السَّخينةُ يا أمير المؤمنين؛ أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما ماتَ ميتٌ من تَميم … فسرَّكَ أن يعيشَ فجيء بزادِ
بخبزٍ أو بتمر أو بسَمْن … أو الشيء المُلَفَّفِ في البجادِ
تراهُ يطوفُ الآفاق حِرْصاً … ليأكلَ رأسَ لقمانَ بنِ عادِ
والملفَّف في البجاد وَطْبُ اللبن (يُلَفُّ بِهِ ليَحْمَى ويُدْرِكَ، وكانتْ تَمِيمُ تُعَيَّرَ بِهِ) ، وأراد الأحنف أن قريشاً كانت تُعيَّرُ بأكل السَّخينة، وهي حساء من دقيق يُتَّخذ عند غلاء السِّعر، وعَجَف المال، وكَلَب الزمان؛ فهذا وما أشبهه مَزْحُ الأشراف، وذوي المُرُوءات؛ فأما السَّبَاب وشَتْمُ السَّلَف وذِكْرُ الأعراض بكبير الفَواحش؛ فمما لا نرضاه لخِسَاسِ العبيد وصِغار الولدان”.
– لزم أعرابي سفيان بن عيينة مدة يسمع منه الحديث، فلما أن جاء ليسافر قال له سفيان: يا أعرابي ما أعجبك من حديثنا؟ قال: ثلاثة أحاديث، حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الحلوى والعسل، وحديثه عليه الصلاة والسلام: إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا بالعشاء، وحديث عائشة عنه أيضا: ليس من البر الصوم في السفر.
– وعاد بعضهم نحويا، فقال: ما الذي تشكوه؟ قال: حمى جاسية نارها حامية؛ منها الأعضاء واهية والعظام بالية، فقال له: لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية.
– قال الجاحظ: مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق، فقلت ما هذه؟ فقال: عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي، فأضربه بالعصا القصيرة، فيتأخر، فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق فيسمع أهل الدرب ذلك، فيسارعون إلي ويخلصوني منهم.