من أوصاف وشيم الكرام، صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أفادتها آيات كتاب ربنا:
محبة إخوانهم المؤمنين وإيثارهم على أنفسهم
قال الله تعالى “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” الحشر:9.
بعد الثناء الطيب على المهاجرين في الآية السالفة، يثني الباري جل وعلا في هذه الآية على طائفة أخرى من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الأنصار، ويذكر لنا بعضا من صفاتهم الجميلة وأخلاقهم الحميدة، ومن ذلك:
ـ أنهم “يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ” من إخوانهم المؤمنين المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، “وهذا لمحبتهم لله ولرسوله؛ أحبوا أحبابه وأحبوا من نصر دينه”1.
ـ سلامة صدورهم من الغل والحسد والشح: “وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا”
ـ الإيثار: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”؛ والإيثار هو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله تعالى مقدَمة على محبة شهوات النفس ولذاتها..2.
وهاهنا قصة عجيبة من قصص الإيثار، بطلها رجل وامرأته من الأنصار رضي الله عنهم وعن المهاجرين أجمعين.
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يضم” أو “من يضيف هذا؟” فقال رجل من الأنصار: أنا؛ فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عيه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوَمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح؛ غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “ضحك الله الليلة” أو “عجب من فعالكما”؛ فأنزل “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”3.
إن المهاجرين والأنصار “هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم وأدركوا به من قبلهم؛ فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين وقادات المتقين”4، فمن يكون أولئك الأقزام الذين يتجرؤون على هؤلاء الأعلام؟! إن هذا لشيء عجاب.
صدق الوعد مع الله تعالى
قال جل في علاه: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا” الأحزاب 23.
قيل في معنى النحب: الأجل. وقيل: النحب هو النذر والعهد5. والمعنى: أن منهم من وفَى بنذره وعهده حتى استُشهد في سبيل الله، كأنس بن النضر وحمزة، ومنهم من ينتظر الشهادة في سبيل الله وما غيروا عهدهم الذي عاهدوا عليه ربهم أبدا”6.
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، قال: “كنَا نُرى أو نظُنَ: أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ”7. يعني في عمَه أنس بن النَضر رضي الله عنه.
وروى مسلم في صحيحه عن ثابت، قال: قال أنس: عمي الذي سُميتُ به؛ لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، قال: فشقَ عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبتُ عنه، وإن أراني الله مشهدا (فيما) بعد مع رسول الله صلى الله عيه وسلم؛ ليراني اللهُ تعالى ما أصنع. -قال- فهاب أن يقول غيرها -قال- فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، -قال- فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ فقال: واها لريح الجنة، أجده دون أحد. -قال- فقاتلهم حتى قُتل. -قال- فوُجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية. -قال- فقالت أخته عمتي الربيع بنتُ النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية: “رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا”. قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه”8.
وللبحث بقية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 3/311
2 ـ نفسه، 3/311ـ312
3 ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، رقم: 1330
4 ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 3/312.
5 ـ صفوة التفاسير، الشيخ محمد علي الصابوني 2/489.
6 ـ نفسه، 2/491.
7 ـ صحيح البخاري:2805
8 ـ صحيح مسلم: 1903.