لقد دعا الإسلام إلى طلب العلم عامة، بل في بعض الآثار عند ابن ماجه، وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ”.
وفضّل الإسلام العالم على الجاهل قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (الزمر).
وفي القرآن ما يقارب سبعمائة وخمسين آية تحث وتدعو إلى إعمال الفكر في هذا الكون، وما فيه من مخلوقات مسخرة للإنسان، هذا الكون الذي هو ميدان العلوم الطبيعية.
قال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة).
وقال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” (آل عمران).
وأول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقْرَأ)، ولهذا قال العلماء: العلم أول واجب على المكلفين، وأوله العلم بالله ودينه وآياته، ولكن يدخل كل علم نافع من باب أن أول خطوة في أي ميدان هي العلم به، فكيف طاب لأمة (اقْرَأ) أن تضل في مهامه الجهل وأوديته، وأن تقعد عن المسابقة والسجال حين تقدمت أمم الأرض كلها في مضمار العلوم دون أن يكون لها تراث يحثها أو دين يحرضها؟!
وأي جسر يمكن أن يقام بين نصوص الشرع المطهر وبين الواقع الفاسد المليء بالجهالات والمفاهيم الخاطئة في حياة الأمة وعقولها؟!
فحق الإنسان أن لا يترك علماً من العلوم الدينية أو الدنيوية أمكنه النظر فيها واتسع العمر لها، إلا ويجد في تحصيلها واكتسابها خدمة لنفسه ودينه وأمته وهذا مقتضى وسطية الإسلام الذي وازن بين الدنيا والآخرة، بين المادة والروح.-
العلم الدنيوي المادي
إن دراسة العلوم الدنيوية والتقنية من الأهمية بمكان لرقي الأمم والمجتمعات، فأمتنا بحاجة ماسّة لذلك، ولا يخفى على ذي بصيرة ما نعانيه من ضعف وتردٍ في هذه الناحية، وقد اعتنى الإسلام بهذا اللون من العلوم وذكره الله تعالى في أكثر من موضع في القرآن، قال تعالى: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود)، أي: جعلكم ساكنيها، مدة أعماركم، وجعلكم عمّارها، وكيف يعمر الإنسان الأرض وهو لا يعرف ما يصلح حياته، وما يفسدها؟!
وفي آية أخرى: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ” (الجمعة)، أي بالتجارة والتثمير والاقتصاد.
وقال: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” (الملك)، وفي هذا إيماء للزرع واستغلال الأرض والسعي في الرزق والسير في الفجاج وتسهيل الاتصال، وفي المسند بسند صحيح مرفوعًا: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”.
فأمة هذا دينها وهذه نصوصها كيف يطيب لها أن تظل في عماية الجهالة بينما تقفز للصدارة أمم لا تراث لها ولا نص يحفزها؟ إن هذا لشيء عجاب!
فأمم الغرب تصل الليل بالنهار في تطوير علومها وآلياتها والاستفادة منها، للهيمنة على من حولها وما حولها، ونحن نعيش حالة من التبعية يرثى لها! خاصة في علوم كالطب، والهندسة، والصناعة وغيرها..
ومن أغرب صور تبعيتنا مثلاً: نظرية (دارون) الملحدة في النشوء والارتقاء، والتي عفا عليها الزمن، ومع ذلك ما زالت تدرس في كثير من بلدان المسلمين على أنها من الحقائق العلمية! ولا سبيل لاستدراك ذلك إلا بالاعتصام بالله عز وجل أولاً، ثم بالتقدم في مثل هذه العلوم، والتبحر في مسالكها، والإبداع فيها.
فعصرنا عصر قوة، والقوي هو الذي يفرض نظمه وثقافته، ويُلزم بها غيره!
ولقد قرر الأئمة كالشاطبي وغيره، وحكا بعض الأصوليين الإجماع على أن الإسلام جاء للمحافظة على الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.
وهذه الضرورات لا تتم المحافظة عليها إلا بامتلاك ناصية العلم المادي البشري الصحيح، وحسن توظيفه لحراسة الدين، وسعادة الدنيا.
فالطب مثلاً هو سبيل حفظ البدن من الأمراض، ولذلك قدر علماء السلف مهنة الطب حق قدرها!
فنسب إلى الشافعي قوله: “إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب”.
وفي رواية ثانية عنه، قال: “لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلاَّ أنّ أهل الكتاب قد غلبونا عليه”.
وفي رواية ثالثة عنه أنه كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: “ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى” (آداب الشافعي ومناقبه للرازي).
المسلمون والإبداع المادي
إن حيازة مراتب الرقي والتقدم في مثل هذه العلوم لن ينال إلا بالأخذ بالأسباب الشرعية والكونية، فكثير من صور تخلفنا وانهزامنا إنما هو نابع من تأخرنا في المجال العلمي، وقلة الوعي، وعدم إدراك العلاقة الصحيحة بين الأسباب والنتائج، وقد حفل تاريخ المسلمين بألوان من الإبداع العلمي والإنجاز الحضاري الذي ورث منتج الأمم السابقة ورعاه وطوّره وحاول إحكام الهدف الأخلاقي من ورائه، وشكـّل العلم الإسلامي حلقة بالغة الأهمية في مسيرة الحضارة الإنسانية، وعرف المسلمون أسماء كثيرة لامعة في مجال العلوم المادية، كانت محل حفاوة الأمة جميعًا وحتى مؤرخو الغرب يدينون بذلك.
يقول “كونستان جيورجيو”: “لا يمكن أن نجد دينًا يحتل العلم والمعرفة فيه محلاًّ بارزًا كما كان الأمـر في الإســلام”.
ويقول المؤرخ الإنجليزي “ويلز”: “كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها، فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت، هو الإسلام.. ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة (الإسلام هو المدنيّة)”.
ويقول “جورج سارتون”: “المسلمون عباقرة الشرق، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة، وأكثرها أصالة وعمقًا، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري”.
وتقول الدكتورة “لويجي رينالدي”: “لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا، تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا، لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم”.
ويقول “روم رولان”: “تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط، والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة..”.
ويقول “غوستاف لوبون”: “إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه..”.
إن حالة الضعف والتأخر العلمي، جعلت المسلمين تبعًا لغيرهم في هذا المضمار، بل أصبحنا في كثير منها عالة عليهم في بعثاتنا العلمية، وفي معلوماتنا وأدوات بحثنا.
كما أننا في كثير من النواحي نجد انفكاكًا في الروابط والتعاون بين المبدعين في العلوم الطبيعية وبين علماء الشريعة، مما صنع هوة سحيقة بين الميدانين، وكأن هذا لا علاقة له بذاك!
والواقع أن العلاقة بين العلوم التقنية والطبيعية وبين علوم الشريعة هي علاقة ترابط وتكامل، فمعطيات العلم الحديث تتلاءم تماما مع ما جاء في القرآن من توجيه نحو إعمار الأرض واستغلالها بكافة نواحيها.