توضيح المسالك إلى بيان شروط إسقاط حكم الكفر على المعين وموانع ذلك الحلقة الحادية عشرة الفصل الرابع

لا ريب أن المسلم لا يخرج عن ملة الإسلام لمكفر فعله إلا بعد قيام الحجة عليه(1) كما قال الإمام الأصفهاني رحمه الله في الحجة في بيان المحجة2/511: “وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار، فقال تعالى: “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ” فكل من هداه الله ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج منه إلا بعد البيان”.

ولا بد حين الحكم بقيام الحجة على معين من التعرف على حالته من حيث علمه بالخطاب الشرعي، ومدى تمكنه من فهم هذا الخطاب ومدى انتفاء ورود الشبهات على فهمه ذاك..
فينبغي الإبلاغ في إقامة الحجة بكشف الشبهات، وقطع التأويلات، والاستدلال بنصوص الكتاب والسنة وتفسير الأئمة المعتد بهم.

صفة قيام الحجة
وعليه فصفة قيام الحجة كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله: “أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها(2) وبالله التوفيق” الإحكام 1/167.
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله عن كيفية إقامة الحجة؟
فأجاب: “إقامة الدليل وبيان الحكم وإزالة الشبهات والدلالة الواضحة من الوجهين” نقلا عن مزيل الإلباس في الأحكام عن الناس 198.
من الذي له أحقية إقامة الحجة؟
فأما ما يتعلق بالمبلغ فنقول: الحجة يجب أن يقوم بها من يحسنها لا من يجهل أمور الدين ولا يجيد الجواب على شبهات المخالفين والزائغين فيزيدهم تمسكا بباطلهم ويكون سببا للإضلال لا للهداية.
قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: “الذي يظهر لي والله أعلم أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم، والله أعلم” منهاج أهل الحق والاتباع 68.
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين عن الذي يقيم الحجة.
فأجاب: “هو العالم المعترف بعلمه والذي يفهم الأدلة ويعرف دلالتها ويحسن الرد على الشبهات ويقدر على الإقناع والنهي عن تقليد الآباء والأجداد” نقلا عن مزيل الإلباس في الأحكام عن الناس 198.
هذا مع العلم أنه لا يلزم أن يكون المبلغ والمقيم للحجة أميرا أو نائبا عنه، وإنما كل من أتقن العلم والأدلة والجواب عن الشبهات وكان مؤهلا لهذا المقام فوجب عليه ذلك أو استحب بحسب الحال، وما ذكره بعض العلماء من أن الذي يقيم الحجة الأمير أو نائبه فمرادهم به تنفيذ الحكم الذي تستوجبه وتقتضيه الحجة القائمة شرعا على ذلك المعين. انظر سعة رحمة رب العالمين 73.
كما ننبه على أن الحجة تقوم بالواحد(3) من أهل العلم كما تقوم بالجماعة منهم من باب أولى، وهذا ما دلت عليه سنته صلى الله عليه وسلم عندما كان يوفد رسله للقيام بأمر الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده إلى أقوام أو ملوك أو قبائل، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى نحو أهل اليمن قال له: “إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم: أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلهم، فإذا صلوا: فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم وترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك: فخذ منهم..” أخرجه البخاري.
كما أرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم، بل كان صلى الله عليه وسلم يرسل من يقوم بالحدود فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أُنَيْسًا أن يغدوا إلى امرأة رجل ذكر أنها زنت، وقال: “فإن اعترفت فارجمها”، فاعترفت فرجمها. متفق عليه.
كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل من يبلغ عنه تحريم شيء معين فيطاع أمره بلا تردد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابا من فظيخ وتمر، فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس (صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء) لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت” رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
فالصحابة الذين كان أنس رضي الهن عنه يسقيهم الخمر “في العلم والمكان من النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلال يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة -وهو مالك الجرار- بكسر الجرار، ولم يقل هو ولا هم ولا أحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة..” الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله 409-410.
والمقصود والشاهد من تلكم الأحاديث وغيرها كثير: أن النبي صلى الله عليه وسلم “لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-” الرسالة 413.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- قد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ والجواب كما قال ابن القيم رحمه الله: “فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم، حتى كأنهم يشاهدونه عيانا. وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض، لم تبلغه دعوة رسله فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته. فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه، فتأمل هذا الموضع واعرف قدره والله المستعان” شفاء العليل 173.
2- وهذا يعني أن هذا المعين تأهل بعد البيان وإقامة الحجة إلى معرفتها. انظر حكم تكفير المعين 18، للشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن.
3- قال الشيخ أبو عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله: “..إقامة الحجة تتحقق بخبر الواحد العدل، أو بما زاد عنه، شريطة أن لا يكون معروفا بالكذب والفسق أو الجهل.. غير أن هذا الواحد العدل يجب أن يحسن إقامتها، بحيث تنفي عمن تقام عليه أية شبهة أو تأويل” مجالس تذكيرية 53.
وللبحث بقية إن شاء الله …

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *