كادت العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وإيطاليا تقطع في صيف سنة 1880م بسبب حادث بسيط يتكرر وقوعه في كل زمان ومكان، وبسبب غطرسة بعض ممثلي الدول الأجنبية في المغرب وجعلهم من الحماية التي يمنحونها لرعاياه وسيلة للتطاول على سيادته وإهانة سلطاته.
وخبر ذلك أن رجلا مغربيا يحترف الدلالة فرَّ بما تحت يديه من متاع الناس ومالهم واختفى عن الأنظار، ولما شكاه زبناؤه إلى المحتسب، الذي هو المختص بالنظر في هذه القضية، بحث عنه فلم يجده، فأمر بحبس ابن له كإجراء إداري إما ليدله الابن على المكان الذي يوجد فيه أبوه إن كان يعرفه، وإما أملا في أن يرقَّ قلب الأب لحالته فيستسلم للسلطة ويخلص ابنه البريء من الحبس.
وكان للدلال الهارب زوج عجوز تعمل خادمة بدار وزير إيطاليا المفوض السنيور “سطيفانو سكوفاصو”، فلما بلغها خبر اعتقال ابنها مكان زوجها ذهبت إلى المحتسب طالبة منه إطلاق سراح ابنها مدعية أنها مطلقة من أبيه وأنها كافلته الوحيدة، ولعلها أغلظت له القول اعتزازا بحمايتها الإيطالية فأمر المحتسب باعتقالها، ولم يكد “سكوفاصو” وزير إيطاليا المفوض يبلغه خبر حبس خادمته المغربية حتى قام ولم يقعد، وتقدم بلائحة مطالب إلى وزير الخارجية السيد محمد بركاش الذي كان يقيم في طنجة باستمرار بصفته نائبا عن السلطان قرب الهيأة الدبلوماسية، وكان مما تضمنته اللائحة تسريح خادمته وابنها وعزل المحتسب واعتقاله، مهددا بإنزال علم دولته، أي قطع علاقتها مع المغرب، إن لم تلب مطالبه في مدة لا تتجاوز الساعتين!
استجاب بركاش لمطالب ممثل إيطاليا، فأطلقت الخادمة وابنها، وعزل المحتسب دون أن يعتقل، لأن اعتقال أحد الولاة وهو يباشر عمله يدخل في اختصاصات السلطان، فرضي ممثل إيطاليا بذلك في انتظار ورود القرار السلطاني بعزله وإلا أنزل علم دولته.
وهكذا تضخم هذا الحادث البسيط وأخذ أبعادا غير متوقعة تنذر بحدوث توتر بين دولتين، وعدت معالجته بتلك السرعة أشنع مظهر لما تتسم به معاملة الممثلين الأجانب من طغيان وعتو، وأكبر حجة على فشل الحكم في المغرب وعجزه عن معالجة القضايا بما يجب من الجدية والحزم.
كتب بركاش بما حدث إلى السلطان بفاس، فغاظ السلطان ومخزنه ذلك، ورأوا في الاستجابة لمطالب ممثل إيطاليا مهانة وإذلالا وخرقا سافرا للقوانين والأعراف، وذهب الغضب بالسلطان إلى حد اتهام بركاش بالتساهل مع النصارى والتخلق بأخلاقهم واتباع أغراضهم، وذلك في مراسلات جرت بينهما.
لم نعثر على المراسلة الأولى لبركاش وما معها من مستندات، ولكننا وقفنا على الرسالة التي أجاب بها السلطان عنها، وهي تلخصها لحسن الحظ كالعادة، تاريخها 21 شوال عام 1297هـ (الأحد 26 شتنبر سنة 1880م) توجد منها نسخة مصورة مطابقة للأصل محفوظة بمديرية الوثائق الملكية (سجل 32.530 محافظ إيطاليا، وطنجة والحماية القنصلية)، وفيما يلي نصها وصورتها:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
(الطابع السلطاني الصغير بداخله)
(الحسن بن محمد الله وليه ومولاه)
خديمنا الأرضى الطالب محمد بركاش
وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد وصل كتابك بأن محتسب طنجة قبض على ولد امرأة عجوز مستخدمة بدار الطليان في والده الدلال الفار بما بيده من حوائج الناس، ذهبت المرأة عند المحتسب وأعلمته بأنها مطلقة من ذلك الرجل وكافلة لولدها وأبوه لا يعرفه في شيء، وطلبت منه أن لا يواخذه بما هرب به والده ويطالب به ضامنه، فأمر بسجنها، فبلغ ذلك للباشادور المذكور فقام وقعد، ووجه لك ترجمانه، ذكرا أنه إن لم يسجن المحتسب ينزل السَّنْجَق (العَلم، والكلمة تركية) ويقطع العلاقات الرسمية، فأجبته بأن لا قدرة لك على ذلك لكونه في خدمة المخزن، والذي يتأتى لك هو عزله ورفع القضية لحضرتنا الشريفة، فقبل ذلك، وأشرت للعامل بعزله وتعيين من يقوم مقامه ريثما تعلمنا، ثم ورد عليه الباشدور بعد ذلك، وأكد في سجن المحتسب، ودار بينك وبينه ما شرحته إلى أن قبل منك أن تجعل له ذلك كتابة، فأجبته بأن يكتب لك لتجيبه، فكتب فأجبته بما في النسخة التي وجهت مع كتابه لك، وأشرت بالتأمل في كتابه لكونه لا زال طالبا سجن المحتسب، وإن لم يسجن يقطع المعاملة، وفيما ادعاه من عدم إعطاء الحق، وما أجبته به من أننا موجودون لإعطائه، وصار جميع ما ذكرته وما تضمنه كتاب المذكور ونسخة جوابك له بالبال.
أما فعلك ذلك لسد الذريعة وتسكين الروعة فجميل وسديد، لكن لا يخفاك أن الجرائم متفاوتة ومتباينة وكذلك الأدب، وكل جريمة لها أدب يناسبها وتعتبر فيها المراتب والخطط، وأمر التولية والعزل مهم، فلا ينبغي الازدراء به والتلاعب، ويحتاج فيه إلى كثرة الكلام والمدافعة والمراجعة حتى ييأسوا، أو إذا وقع ونزل به أمر يكون على مقتضاه بعد مشقة وجهد جهيد، كما يحتاج فيه في بعض الأحيان إلى عزل مقابله كقضية الزمراني بالصويرة، وقونص الفرنصيص حياة سيدنا رحمه الله، وإلا فإذا كان كل من عرض لخادمه أو حارسه أو لامرأة أجنبية عنه كهذه شيء مع حاكم من الحكام يعزل الحاكم بسببه، فإن الخرق يتسع على الولاة وتفسد عليهم الأعمال، سيما وذلك المحل محل الباشدورات الذين لا يخفى عليهم ما هو جار من الأحكام على مقتضاه وما هو جار على خلافه، وكلهم يتشوفون لمثل ما أراده المذكور ويطلبون المساواة فيه معه، ولهم الحق في ذلك، وفي ذك من فساد النظام في جميع المدن والمراسي والبلدان ما لا يخفى، على أن مساعدتهم على مثل ذلك لا تتأتى، وعليه فتأمل في القضية، وانظر فيها بعين الاعتبار والإنصاف، وفاوض فيها بعض الأجناس الذين تامن إشارتهم، وإن أشاروا باعتذار المحتسب للباشدور وبإبقائه بمحله فافعل، وإن أشاروا بعزله وتأتت لك ملاطفة الطليان في إبقائه بمحله إلى أجل ولو إلى الوقت الذي يكون فيه بحضرتنا العالية بالله، ويقع الكلام معه في شأنه فافعل، وإلا فوجهه لحضرتنا العالية بالله غير مهان والله يعينك، والسلام.
في 21 من شوال عام 1297