لقد فطر الله الناس على حب الهداية والبحث عنها فإن “في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات” درء تعارض العقل والنقل (8/463).
وطلب الحق والحرص عليه واجب على كل مكلف ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاحه لصلاة الليل: “اللهمّ ربَّ جبريل وميكائيل، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اِهدني لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم” رواه مسلم.
ولقد أمر الله عز وجل بإظهار الحق وإعلانه والصدع به ونهى عن كتمانه ولبسه بالباطل فقال سبحانه وتعالى: “وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” البقرة 42
وقال تعالى: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” آل عمران 71
وتوعد سبحانه وتعالى من يكتم الحق بالوعيد الشديد فقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ” البقرة 159
فكان من مميزات منهج أهل السنة وأتباع السلف إظهارُ الحق وإعلانه وعدم كتمانه وعدم السكوت عن الباطل وهذا مأخوذ عن السلف الذين “كانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل أولَ ما تنجم ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطر حتى يوسعوه إبطالا ومحوا، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شره، ويستفحل أمره فتُستغلظ جذوره، ويتبوأ من نفوس العامة مكانا مطمئنا” محمد البشير الإبراهيمي كما في آثاره (4/111).
فإن سكوت أهل العلم سبيل لانتشار البدعة والفساد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “وكلما ضعُفَ من يقوم بنور النبوة قوِيت البدعة” الرسالة التدمرية ص194.
فأتباع السلف ينطقون بالحق الذي تلقوه من مصادر الإسلام وفق الضوابط العلمية، وما تقتضيه المصلحة الشرعية، فقد تقرر عند أهل العلم أن النطق بالحق تغييرا لمنكر، إذا غلب على الظن أن يترتب عليه منكر أكبر كان الواجب: السكوت، وذلك دون أن يراعوا ردود أفعال الناس، فإن الله أمر العامة بسؤال العلماء واتباعهم لا العكس.
أما أهل البدع المخالفون لمنهج السلف فإنهم يدورون مع المصلحة الشخصية والمتاع الزائل، قال الشوكاني رحمه الله تعالى: “وقد يترك التكلم بالحق محافظة على حظ قد ظفر به.. من مال وجاه، وقد يترك التكلم بالحق الذي هو خلاف ما عليه الناس استجلابا لخواطر العوام ومخافة من نفورهم عنه، وقد يترك التكلم بالحق لطمع يظنه ويرجو حصوله..” أدب الطلب ص 41.
وفي مثل هؤلاء قال الله عز وجل: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” البقرة 174.
ويا لله كم رأينا من أناس كانوا يتظاهرون بالصدع بالحق وعدم الخوف في الله لومة لائم، فلما وُضعوا في المِحكِّ أوَّلُوا وحرفوا، فأبطلوا الحق وأحقوا الباطل، وكتموا من العلم ما كانوا بالأمس القريب يقولون به، حتى إن بعضهم سارع إلى موقعه على الشبكة فمسح منه مواد سمعية وأخرى مكتوبة براءة منه مما كان ينصره من الحق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فما أكثر اليوم من يجارون الناس على أهوائهم فيبحون لهم ما تشتهيه نفوسهم من غناء وتبرج وربا.. تارة بدعوى “التيسير على الأمة” وأخرى بدعوى أن “المسألة خلافية” وثالثة بدعوى “صلاحية الإسلام لكل زمان” ورابعة وخامسة.. هؤلاء يهدمون الدين ويفسدون على أهل الحق دعوتهم وصدق أبو علي الدَّقاق رحمه الله حين قال: “الساكت عن الحق شيطان أخرس”.
فما الحامل لمثل هؤلاء على هذا الصنيع إلا مراقبة الخلق والغفلة عن الخالق سبحانه وتعالى، فما تنفعنا دريهمات نكسبها أو مصالح نحققها، أو وظائف نمسك بها إذا غضب الله عنَّا؟؟
وأين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سُئل عن علم فكتمَه أُلجم يومَ القيامة بلجام من نار” الترمذي وأبو داود وابن ماجة.
ثم إن الأمر لا يقف عند حد كتم الحق بل إن “من كتم الحق احتاج أن يقيم موضعه باطلا فيلبس الحق بالباطل، ولهذا كان كل من كتم من أهل الكتاب ما أنزل الله فلابد أن يظهر باطلا وهكذا أهل البدع” مجموع الفتاوى 7/172-173.
وكل من اتصف بهذه الصفة المشينة وهي صفة كتمان الحق فعنده شبه باليهود الذين قال فيهم الله عز وجل: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” البقرة 146.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بالحق قائمين وعنه صادرين “رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”.