تتميز الدعوة السلفية بأنها دعوة ربانية؛ لأنها تعتمد على أصلين أساسيين هما: التوحيد والإتباع، وهذا ما يجعلها دعوة ربانية في الغاية والوجهة، وربانية في المنهج والمصدر.
ربانية الغاية والوجهة
فأما ربانية الغاية والوجهة؛ فإن الغاية والهدف هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، وهذه هي غاية الإنسان ووجهته ومنتهى أمله وسعيه، فإن الهدف الأكبر هو تحقيق مرضاة الله تعالى، وحسن مثوبته فهو هدف الأهداف وغاية الغايات، وإن كان هناك أهداف أخرى إلا أنها تابعة لهذا الهدف الأكبر.
ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلنها للناس واضحة جلية: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ” (الأنعام).
فالغاية إذًا من وجود الإنسان أن يعبد الله؛ فينبغي أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده بأن يجعل الله غايته، فلا يعبد إلا الله ولا يشرك به شيئًا، وهذا معنى قول العبد في الصلاة “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” (الفاتحة).
وهذه الربانية في القصد تؤمِّن النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، لأن الإسلام جعل غاية الإنسان غاية واحدة وهي إرضاء الله تعالى وجعل همومه همًا واحدًا وهو العمل على ما يرضيه سبحانه.
ولا يريح النفس شيء مثل وحدة الغاية والوجهة في الحياة، فتعرف من أين تبدأ وإلى أين تسير ومع من تسير، ولا يُشقي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته وتباين اتجاهاته وتضارب نزاعاته.
فعقيدة التوحيد قد منحت المسلم يقينًا بأن لا رب إلا الله يخاف ويرجى، ولا إله إلا الله يتقى سخطه، ويلتمس رضاه، وبهذا أخرج المسلم كل الأرباب الزائفة من حياته وحطم كل الأصنام المادية والمعنوية من قلبه ورضي الله وحده ربًا، عليه يتوكل وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وله يتودد وإليه يحتكم وبه يعتصم “وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” آل عمران، فأين هذا من المشرك بالله الذي تعددت أربابه، وتضاربت وجهاته، وقد مثله القرآن الكريم بعبد له أكثر من سيد وهم شركاء متشاكسون غير متوافقين كل يأمره بضد ما أمره به الآخر ويريد منه غير ما يريد الآخر، فهمه متفرق وقلبه مشتت.
ربانية المنهج والمصدر
ومن آثار الأصل الثاني وهو الإتباع ربانية المنهج وهو أن يكون المنهج من عند الله تعالى فهم لا يصدرون عن شيء إلا عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو المنهج الرباني لقول الله تعالى: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى” النجم.
فكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدين إنما هو بوحي من الله تعالى.
وتقتضي الربانية في المنهج والمصدر أن لا يكون هناك معصوم إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين، والكتب المنزلة عليهم، وعلى ذلك فليس هناك معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسالة التي جاء بها صلىَّ الله عليه وسلم، وهذا يقتضي أن ندرك أن العالِم معرض للخطأ.
وأنه لا يجوز لمن استبانت له سنة رسول الله صلىَّ الله عليه وسلم أن يدعها لقول أحد من الناس وهذا إجماع، ويقتضي أن يكون العباد غير متعبدين بقول أحد من البشر إلا بقوله صلىَّ الله عليه وسلم، ولذلك فهم لا يُسألون عن أحد من البشر في قبورهم إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أجابوه أم كذبوه.
والسلفيون إذا كانوا يقدرون علماء الأمة، ويعرفون منزلتهم، ويشكرون لهم جهودهم، ويثنون عليهم بما هم أهل له، إلا أنهم لا يقدسون الأشخاص، ولا يتغاضون عن الأخطاء ولا يسكتون عن الحق، ونستحضر في هذا المقام قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رَحمه الله: “كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وقول ابن القيم: “وكان أحمد إذا وجد نصًا أفتى بموجبه ولا يلتفت إلى ما خالفه من قولٍ كائنًا من كان قائله”، وقول الإمام الشافعي: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، والمجتهد مأجور على كل حال إما بأجر أو بأجرين، قال صلىَّ الله عليه وسلم: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر”. فهذا الحديث يدل على أن المجتهد مأجور على كل حال، لكنه ليس مصيبًا في كل الأحوال.