لم تكن فلسطين تحتلُّ مكانة مرموقة في حسِّ العربي الجاهلي قبل الإسلام، وفي معظم الأحوال كان ينظر العربي إلى الشام وضمنها فلسطين على أنها لا تزيد عن كونها إحدى مناطق الاستقرار والنشاط الاقتصادي التي كان يرتبط بها في رحلاته التجارية الموسمية.
وقد عرف المسلمون والعرب أهمية هذا البلد بالإسلام وبالإسلام وحده، وليس بالعروبة كانت قضية فلسطين قضية مقدسة، عرف هذا المعنى صلاح الدين الأيوبي عندما حررها مرة أخرى من براثن الصليبيين، ولم يكن صلاح الدين عربياً، بل كان كردياً، وعرف هذا المعنى العثمانيون الأتراك عندما حافظوا على الأمانة واستماتوا في الدفاع عنها حتى دفع السلطان عبد الحميد الثاني عرشه ثمناً لتمسكه بها وعدم التفريط فيها.
لقد ناهض السلطان عبد الحميد ما بوسعه الاستيطان اليهودي في فلسطين وقاومه باستمرار في حدود قدرات دولة آخذة في الاضمحلال تواجهها قوى أوروبية كبرى توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونية، وهو وإن لم يستطع إيقاف هذا الاستيطان تماماً، إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه قط، ولم يعط شرعية أو إذناً لليهود بالاستيطان .
رَكِبَ اليهود جمعية الاتحاد والترقي العلمانية ذات العلاقات الماسونية واليهودية، واستطاعت هذه الجمعية في النهاية خلع السطان عبد الحميد، والإمساك بزمام الأمور في الدولة خاصة بعد إلغاء الخلافة على يد المجرم أتاتورك عام 1924م .
وبوصول جمعية الاتحاد والترقي المنبثقة عن (تركيا الفتاة) إلى سدة الحكم إثر انقلاب عام 1908م، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م خـَلعَت قضية فلسطين الرداء السياسي الإسلامي، وفقدت آخر سند إسلامي رسمي وقتها، ودخلت بذلك هذه القضية النفق العلماني، لتكون في عهدة نظم ومنظمات جديدة لا تصطبغ بالصبغة الدينية، بل تدعي لنفسها التقدمية والعلمانية.
بخروج فلسطين من مظلة السياسة الشرعية الإسلامية عادت مرة أخرى كما كانت في سالف عهدها في الجاهلية: طريقاً إلى منافع مادية، أي إنها خرجت من إطار المبادئ إلى إطار المصالح، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها، ولا مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر، بل لا مانع من التنازل عن بعضها أو استبدال غيرها بها.
ما الذي طرأ على قضية فلسطين بدخول العلمانية إلى حلبة الصراع بديلاً عن الإسلام في الفكر والممارسة الواقعية؟
إن المتأمل في المخطط الصهيوني السابق ذكره يدرك أن العلمانية كانت مفتاح تحقيق هذا المخطط، وإذا كان سقوط الدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية أدى بشكل شبه تلقائي إلى تحقيق معضم نقاط المخطط..، فإن التجربة العلمانية السياسية التي عملوا على إغراق بلادنا فيها عملت على ترسيخ هذه المكاسب الصهيونية مع تحقيق النقاط الأخرى من المخطط الصهيوني، ليس فقط في الواقع السياسي، ولكن أيضاً في أفكار الشعوب وسلوكياتهم، وذلك من خلال :
أولاً: الافتقار إلى البعد الرسالي للقضية بتنحية الإسلام من الصراع:
فالصراع في قضية فلسطين صراع عقدي في أساسه، والإسلام في هذا الإطار هو القادر على المواجهة وهو المستهدف فيها.. هذا ما يدركه الصهاينة لهذا يصرون على حصر الصراع بينهم وبين العرب، ويتجاهله العلمانيون من قوميين واشتراكيين وشيوعيين ليضعون أنفسهم في الخندق المعادي للرؤية الإسلامية.
فقد صدَّر الصهاينة إعلان الدولة العبرية بما يلي:
“أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضارية ذات مغزى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد”.
وقال أول رئيس وزراء في الدولة الصهيونية “ديفيد بن جوريون”: “علينا أن نشكل شخصية دولة إسرائيل وإعدادها للاضطلاع برسالتها التاريخية المثلثة في: جمع الجوالي، بناء الإنسان، حياة الحرية والمساواة والعدالة.” (المرجع نفسه).
ولذلك عرف الصهاينة أن عدوهم الحقيقي الذي يتصادم مع “رسالتهم التاريخية” ومصالحهم في المنطقة هو الإسلام، والإسلام الحقيقي وحده، يقول “بن جوريون”: “نحن لا نخشى الثوريات ولا الديمقراطيات ولا الاشتراكيات في هذه المنطقة! نحن نخشى الإسلام فقط، هذا العملاق الذي طال نومه، ثم بدأ يتململ من جديد” (يقظة العرب، لجورج أنطونيوس، ص: 594).
فالعلمانية بأطيافها المتعددة لا تخيف قادة الصهاينة، ولكنه الإسلام فقط، لذا: عملوا جاهدين على محاربته وإخراجه من دائرة الصراع، وهو ما قامت به العلمانية.
فإذا كان هذا هو موقف العدو الرسالي تجاه نفسه وتجاه خصمه، فما هو موقف العلمانيين من أبناء جلدتنا؟
من المعروف أن العلمانية اتجاه فكري لاديني منحرف نشأ في الغرب، ثم انتقل بألوانه المتغايرة وتطبيقاته المتعددة إلى بلادنا عن طريق نخب متغربة، لذا: فإن هذه النخب عندما تخلت عن مرجعيتها الإسلامية لم تجد نفسها في وضع متناقض مع الحضارة الغربية التي تعد الكيان الصهيوني ممثلها في الشرق، وعليه:
يصعب على هذه النخب الدخول في صراع حقيقي -أساسه المبادئ لا المصالح- مع هذه الدولة، وتبقى بعد ذلك مسألة أرض فلسطين وبعض الخلافات والنزاعات الثانوية الأخرى التي يمكن النظر فيها والتفاوض عليها برعاية آباء هذه الحضارة التي تظلهم وتظل خصومهم الصهاينة، لذلك: فمن الممكن عند العلمانيين الوقوف على أرضية مشتركة بينهم وبين الكيان الصهيوني الذي ولد بشرعية دولية يحترمها جميع العلمانيين، ومن الممكن أيضاً: إيجاد أنصاف أو أخماس حلول والالتقاء في منتصف الطريق مع هذه الدولة .
والسبب الرئيسي في ذلك: أن العلمانية السياسية قامت في بلادنا على نفي مفهوم الولاء والبراء الإسلامي واستبعاد توجيهات الشريعة الإسلامية من دائرة صنع القرار، واستبدلت بهما إطار القومية العربية أو الوطنية الإقليمية، مع الدخول في لعبة الشرعية الدولية ومنظومتها، وليس بجديد أن نقول إن القومية العربية والقومية التركية والقومية اليهودية الصهيونية خرجت جميعها فكرياً وعملياً من معين واحد، أساسه فكرة الدولة القومية التي نشأت في الغرب.
فحلول “العلمانية السياسية” محل الإسلام في الصراع على قضية فلسطين كان أكبر عامل خَدَم الصهيونية، عندما لم تجد أمامها طرفاً آخر مبايناً ومواجهاً لها.
ثانياً : الافتقار إلى العداوة المبدئية وإرادة القتال:
ما هو البعد العملي الذي ترتب على دخول العلمانية السياسية ممثلة في القومية العربية أو الوطنية الإقليمية حلبة الصراع في فلسطين بديلاً عن الإسلام؟
طرأ بانتقال الصراع حول قضية فلسطين من البعد الإسلامي إلى التدبير العلماني: إزالة الحاجز العقدي المتمثل في الولاء والبراء، ذلك الحاجز الذي كان قائماً بين المسلمين والصهاينة عندما كان الإسلام هو موجه المشاعر، وعليه: لم يصبح اليهود الصهاينة أعداء من منطلق عقدي ديني، ولم يصبحوا مغتصبين لبقعة تمثل جزءاً مهماً ومكانا مقدسا عند المسلمين، بل أصبحوا خصوماً أو أعداء مغتصبين مثلهم مثل أي دولة إقليمية حتى ولو إسلامية أو عربية يمكن أن يكونوا اليوم معهم في حالة عداء على المرعى والماء كما يمكن أن تزول غداً هذه العداوة.
وهذا البعد المستجد يتضح جليّاً في تلون العلمانيين وتبدل مواقفهم وسقوط ثوابتهم، بل لقد صرح بعضهم بسقوط هذه العداوة بلا مواربة، فلقد صرح أحد القادة العرب المشاركين في القضية بسقوط هذا الحاجز أثناء محادثات بينه وبين اليهود في شهر 1/1949م استهلها قائلاً : “يقال إننا أعداء، يشهد الله أننا لسنا أعداء” (جريد الشرق الأوسط، ع/8086، 17/1/2001).
وعلى جانب آخر: وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا أيام الشيوعية والاشتراكية موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر، “فقد انتقدوا التدخل العربي في حرب عام 1948م، وطالبوا بسحب الجيوش العربية الغازية، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة يهودية، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين، ولم يقتصروا على هذا، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة دولة يهودية”.
وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت وما زالت على أيدي” الرفاق” الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع رفاقهم الشيوعيين اليهود وحدة الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية، حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار العربي” الإسرائيلي” حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري “هنري كوريال” رسالتين لكل من جمال عبد الناصر و”بن جوريون” يدعونهما فيهما باسم (الحركة الديمقراطية) و (حركة السلام المصرية) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و”إسرائيل” ودول عدم الانحياز والدول الكبرى، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م أجهض تلك المحاولة..
وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية، ومن ذلك : إعلان تحالف “كوبنهاجن” عام1997م وتأسيس (جمعية القاهرة للسلام) في العام الذي يليه، بدعم أوروبي وأمريكي.
وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم، فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام عن ساحة الصراع: افتقد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك، وتوجهوا إلى شرعيتهم الدولية يسألونها (حقوقهم المشروعة) ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونه مناقضاً لهم حتى ولو اختلفوا معه، أو رأوه ظالماً وغاشماً.