كان تبرج النساء حاضرا في المجتمع الجاهلي لخلو نظامه الاجتماعي من بعض الأحكام التي تؤطر علاقة المرأة بالرجل، وهو ما أفضى إلى وقوع أنواع من الزيجات غير الشرعية، وأدى إلى انتشار الزنا بشكل فاحش..
فجاء الإسلام بتشريعاته الربانية لتصحيح الفساد العقدي بدعوة الناس إلى الرجوع إلى التوحيد الخالص، ولتصحيح الفساد الأخلاقي بدعوة الناس للآداب الفاضلة والأخلاق الحسنة، فأطر ذلك بأحكام وتشريعات منها حجاب المرأة وهو لباس العفة الذي يقيها طمع النظر الآثم، وتستعف به لستر جسدها، حتى تحرص على أمانة الستر مساهمة منها في إصلاح مجتمعها وقطع الطريق على من يتاجر بجمالها ومفاتنها، فلا يرى منها شيء إلا برضا ربها سبحانه وتعالى.
هكذا التزمت المرأة المسلمة زمنا طويلا وهي تفتخر بلباس طهرها، ولا تسمح لشهوة منها أن تنزع الستر الذي يحققه ذاك الحجاب، وعاشت الأمة الإسلامية قرونا ورجالها يعتبرون الاطلاع على عورات نسائهم قدحا في غيرتهم، ونساؤها يعتبرن ظهور جزء مما أمرن بستره قدحا في دينهن وحيائهن وعفتهن.
ومنذ القرن 19 حرصت الحملات الامبريالية الغربية على محاربة الثقافة الإسلامية، وعملت على ترويج الثقافة العلمانية وذلك بنشر القيم المنحلة كالسفور والاختلاط وإقامة العلاقات المحرمة، ومع قلة العلم في بعض المناطق وضعف التمسك بأحكام الشرع وتهميش القضاء الإسلامي، وحل نظام الحسبة، وبفعل التأثر بالغازي وتقليده في نمط عيشه عرف تشريع الحجاب استخفافا واستهانة من طرف بعض المسلمين، وتحول اللباس عند كثير من الناس من عبادة مفروضة وتشريع تلتزم به المرأة رضا لربها إلى مجرد عادة تتحكم فيها أذواق المجتمع، وميولات الناس.
ولكون الأذواق تتسم بالتطور إذا لم تضبط بالشريعة الثابتة، ولشراسة حملات التغريب المتتالية والمدروسة وقع التساهل في الالتزام بأحكام الشريعة ومنها حجاب المرأة المسلمة الذي تم إفراغه من المحتوى الديني التعبدي، فكان ذلك من أهم ما ركب عليه المحتل لاختراق منظومة القيم والأخلاق وتكريس التبعية لقيم التمدن العلماني بوصفه -حسب المستغربين- مظهرا من مظاهر الرقي الغربي، وسببا من أسبابه، إلى أن وصلنا إلى زمن صار فيه التبرج والسفور من سلوكيات المرأة المسلمة في مخالفة صريحة لنصوص القرآن والسنة.. وأصبحت القيم الدينية الإسلامية رجعية وماضوية وظلامية، يجهر بنبذها على القنوات الإعلامية ويطعن فيها على صفحات الجرائد.
ومع انتشار العلم قيض الله سبحانه وتعالى علماء مجددين عملوا على خلق نهضة علمية ودينية، كان الرجوع إلى الالتزام بشريعة الإسلام وأحكام الدين من أهم ثمراتها، وأصبحت مظاهر اللباس الإسلامي تأخذ مكانها في المجتمع معلنة رجوع المسلمين إلى دينهم، فكثر الرجال الملتحون والنساء المحجبات والمنقبات، مما اعتبر من طرف النخبة المعلمنة المستغربة تهديدا للمشروع الحداثي، الأمر الذي دفع بالعلمانيين إلى الاستعانة بالمراكز الغربية للقيام بدراسات اجتماعية في محاولة لإثبات أن التزام الناس ببعض الأحكام الشرعية وعلى رأسها الحجاب هو مجرد سلوك اجتماعي لا علاقة له بالدين..
لكن تلك الدراسات ومنها “دراسة التدين عند المغاربة” خيبت ظنهم فأثبتت ولله الحمد أن أكثر أربعة أخماس المجتمع (84%) يؤيدون الحجاب مع أن الفئات التي تكون مستهدفة في مثل هذه الدراسات هي المثقفة والمتعلمة، وضمنهم 64,9% لأسباب دينية، و17,2% لأسباب غير دينية ضمنها الاحترام، كما أن 75% منهم يعتبرون الحجاب دليلا على المرأة المسلمة..، ورغم هذه الحقائق التي أعلنوها بأفواههم نراهم يكذبون في تصريحاتهم ويؤكدون أن البعد الديني ثانوي (انظر كلام الصغير جنجار “نيشان” ع: 187).
لا زال العلمانيون يصرون على الاستدلال بواقع الناس على أن الحجاب عادة اجتماعية لا عبادة ربانية، مما أنتج وجود صراع بين الخطاب الديني الذي ينطلق من أدلة التشريع وتاريخ الالتزام بالحجاب كتعبد ديني، وبين التيار الحداثي الذي صار يتكئ مع ضعف دراساته التي يسميها علمية على واقع فاسد لا يستقيم لهم الاستدلال به حسب دراساتهم الاجتماعية التي يقومون بها.
غير أنه ومع ضغوط الحياة العصرية، وتساهل الكثير من الدعاة والوعاظ في شروط الحجاب، ظهر نوع من اللباس يشبه اللباس الشرعي في تغطية الرأس، هو أقرب إلى التبرج منه إلى الحجاب، إذ لا يحقق الستر المطلوب شرعا ولا تتوفر فيه الشروط الشرعية، لكنه يحقق عند الكثير ممن يلبسنه ارتياحا نفسيا، أو أغراضا شخصية أو إرضاء لأقربائهن.
هذا النوع من الحجاب لدى بعض الفتيات أو النساء لم يصاحبه تمسك بباقي أحكام الدين الإسلامي، مما جعل رجوعهن إلى التدين يتخذ مظهرا شكليا اقتصر على تغطية الرأس في حين احتفظن بالقناعات نفسها التي كانت لديهن قبل ارتداء ما يسمونه حجابا، فبعضهن يقمن صداقات غير شرعية مع أصدقاء الدراسة والعمل، متأثرين بما يشاهدونه في الإعلام المتسيب، مما جعل ظهورهن وهن في صور تنافي العفة التي هي من معاني الحجاب، ظاهرة تعكس مدى التيه الذي يعيشه أبناء المسلمين في هذا الزمن. الشيء الذي جعل بعض المغرضين من العلمانيين يعتبر هذا الحجاب دليلا على أن تغطية الرأس هي عادة اجتماعية وليست فريضة دينية.
إن وجود هذا السلوك في المجتمع لا ينتقص من فريضة الحجاب، بل يدعو إلى العمل على تقوية النقص الحاصل في سلوك من يرتدينه حتى يصبحن فعلا منسجمات مع سلوك الفتاة المسلمة التي تقر بفرضية الحجاب، بدل أن نتخذه ذريعة لمحاربة التدين في المجتمع، بتصوير من ترتدي الحجاب الظاهرة منافقة عليها ترك تغطية رأسها استنادا إلى كون ارتداء الحجاب يتصادم وبعض الأفعال المخلة بالحياء التي تصدر من هؤلاء المحجبات..
إننا نعلم أن لبس الحجاب من المرأة يحتاج إلى أن يكون معه خلق ودين يمنعان المرأة من ارتكاب المخالفات، وهذا الذي ينبغي أن نحرص عليه إذا كنا نريد فعلا المشاركة في إصلاح المجتمع، لا أن ننتقص من الحجاب ونستهزئ بالمحجبات بحجة تعرية الواقع والإبداع في المجال السينمائي وحرية التعبير..
ولهذا الواقع غير المرضي نقول للقائمين عليه: “كفاكم من التضييق على الخطاب الديني المصلح، ومحاربة حماة الفضيلة المدافعين على الهوية الإسلامية للأمة المغربية، كما أنه يجب عليكم إزالة القوانين والبرامج التي تعوق بناء مؤسسة الأسرة على أساس خلق العفة والحياء بالنسبة للرجال والنساء، ومحاربة الفكر العلماني الذي يدعو لتمييع العلاقات الاجتماعية وينظر للرذيلة والفاحشة باسم التمتع بالعيش الحر”.