بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر “الحرمل” (المسمى علميا: peganum harmala) من الأعشاب الطبية الأكثر استعمالا في مجتمعنا، عند الأطفال وكذلك البالغين، نظرا لما يتميز به من خصائص قوية وفعالة لعلاج الكثير من الأعراض التي تكون مصحوبة بغالب الأمراض الشائعة، ولكن للأسف فهذه العشبة قد تصبح سما قاتلا أو مخربا للجسم حينما تستعمل بشكل غير لائق، بدون احترام الجرعات والموانع الخاصة بها.
وقد صرح “المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية” أن نسبة التسمم بالحرمل تشكل 3 %من مجموع التسممات التي يتوصلون بها سنويا، وهذه النسبة تبين أهمية وخطورة هذا الموضوع، وضرورة القيام بتوعية شاملة لأفراد مجتمعنا، للحد من وقوع الناس في التعاطي لهذه العشبة، التي طالما نسمع بها منذ كنا صغارا في مختلف الوصفات عند آبائنا وأجدادنا، لأنها تظهر للكثيرين آمنة وبعيدة عن إلحاق كل ضرر بأجسامهم، لا سيما أننا لازلنا نرى الأكثرين يفضلون التداوي بالأعشاب التقليدية بدل الأدوية الكيماوية المصنوعة، في ظل غياب متخصصين مؤهلين في هذا المجال، يمكن أن يُعتمد عليهم في معرفة ما يناسب ومن لا يناسب من الأعشاب، وطرق الاستعمال والجرعات وغير ذلك.
وتستعمل هذه العشبة “السحرية” في بلدنا لعلاج الكثير من الأمراض النسائية، كالتعفنات التي تصيب الجهاز التناسلي (وهي ما يسمى عندنا بـ: “البرد”) وحالات العقم المستعصية، وكذا العجز الجنسي، كما تلجأ إليها بعض النساء اللواتي وقعن في الحمل من الزنى لإسقاط الجنين، وتسهيل الإجهاض للتستر عن فاحشتهن قبل ظهور علامات الحمل الظاهرة.
ولها عدة مفعولات أخرى تجعل استعمالاتها أوسع نطاقا، ونذكر منها أنها عشبة ذات آثار منومة ومهدئة للأعصاب، ومخفضة للحرارة ومضادة للألم والسعال وكذا مضادة للإسهال خصوصا عند الأطفال. كما تستخدم في علاج الأمراض الجلدية، كالتقرحات الجلدية وآثار الحريق، لكونها معقمة ومساعدة على الالتئام الجلدي، وأيضا تنفع في علاج تساقط الشعر ومختلف أنواع الإكزيما وغير ذلك من الأمراض.
وفي بعض المناطق نجد أن هذه العشبة تدخل في جميع الخلطات التي توصف لعلاج أمراض الأطفال (خصوصا في منطقة مراكش ونواحيها)، وهذا راجع إلى خاصيتها المنومة التي تؤثر مباشرة على الأطفال الذين يعانون من آلام أو مغص يجعلهم يسهرون الليالي جراءها، فيكون لها دور إعطاء المصداقية للوصفة حينما يلاحظ الآباء أن الطفل قد هدأ مباشرة بعد استعمال التركيبة، وتمكن من النوم وتحسن حاله.
وعلميا تفسر هذه التأثيرات المختلفة للحرمل بكونه يؤثر مباشرة على بعض المستقبلات في الدماغ، وهي عشبة مكونة من أربعة قلويدات (أو مركبات قلوية) مختلفة، وهي: “الحَرْمِين” و”الحَرْمَلِين” و”الحَرْمَان” و”الحَرْمَلُول” (Harmane, Harmine, Harmaline, Harmalol)، يكون لها التأثير المباشر على المراكز العصبية، وفي حالة كانت الجرعة مرتفعة تؤدي إلى آثار مركزية خطيرة، قد تصل إلى الدخول في غيبوبة، وعلى أقصى تقدير قد تسبب الموت الدماغي ثم الوفاة.
ولتقريب الصورة أكثر، نذكر لكم ما يقع تجريبيا إذا تناول الإنسان ملعقة صغيرة من حبوب الحرمل (حسبما نقلت دراسة طبية تونسية اهتمت بالتسممات الناتجة عن الأعشاب والنباتات المستعملة في الطب الشعبي):
بعد دقائق تظهر آلام قوية في الرأس، على شكل حزام محيط بالرأس، ثم إحساس بتنملات في نهاية الأطراف، واضطرابات في الحواس، كنقصان السمع وهلوسات بصرية، وبعدها يأتي إحساس قوي بآلام في البطن مع التقيء، ثم تظهر اضطرابات عصبية أمثال نقصان في الوعي وتصلب في الأطراف، وبينت الدراسة أن هذه الأعراض لا تزول إلا بعد 30 ساعة بعد التدخل الطبي الذي يعتمد على إفراغ المعدة من هذه المادة وغسلها، واستعمال بعض الأدوية التي تصفي الدماغ والدم من آثار العشبة، وهذه الأعراض مرتبط بالجرعة المتناولة من العشبة، إذ يمكن أن تؤدي إلى الوفاة في فترة وجيزة إذا كانت الجرعة كبيرة.
كما نقلت بعض المصالح الطبية في المغرب، أن الحرمل قد يسبب الفشل الكلوي عند الأطفال، حيث سُجلت بعض الوفيات بعد الاستعمال المتكرر للحرمل للمتعالجين عند الطب الشعبي، وذلك حسبما نقلته دراسة للأستاذ بلخضر في كتابه: “الطب التقليدي وعلم السموم في غرب الصحراء Médecine traditionnelle et toxicologie ouest-sahariennes” نقل فيها أن الحرمل تسبب في حالات فشكل كلوي نهائي عند الأطفال، وأدى إلى توقف كلي في التبول ثم وفاتهم في نهاية المطاف.
وأسرد لكم كنموذج واقعة نقلها “المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية” لحالة تسمم بعشبة الحرمل، حيث اتصل بهم طبيب إنعاش يسألهم عن كيفية التعامل مع حالة غيبوبة ناتجة عن تسمم بعد تناول كمية من حبوب الحرمل عند شابة في 18 من عمرها، حسبما نقل أهلها الذين وجدوها مغمى عليها وحولها حبوب الحرمل مبعثرة، وقد شخّص الطبيب عندها نزيفا رحميا شديدا، وحالة غيبوبة عميقة، مع تشنجات متكررة لم يستطع التغلب عليها برغم الأدوية ووسائل الإنعاش التي استخدمها، في غياب وجود دواء مضاد لهذا التسمم بالذات في الوقت الراهن، حتى توفيت البنت بعد فترة بعدما أصيبت بشلل تام في الجهاز العصبي المركزي أدى إلى توقف في التنفس، كما أظهرت نتائج التحريات بعد ذلك أنها كانت محاولة إجهاض، حيث لجأت الشابة إلى الحرمل قصد إسقاط الجنين لتجنب الفضيحة وجلب العار إلى أسرتها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نسأل الله أن يرد ببنات المسلمين ويهديهن إلى الاستقامة على هذا الدين.
ونشير إلى أن التسمم بالحرمل لا ينحصر فقط بتناول حبوبه عن طريق الفم، ولكن يمكن أيضا أن يتم باستنشاق أبخرته عن طريق الجهاز التنفسي حينما يتم تبخيره، فيسبب أعراضا نذكر منها الهلوسة البصرية وخلل في الوعي قد يصل إلى حالة شبيهة بالسُّكْر، وذلك لكون تلك القلويدات تمر إلى الدم عن طريق الرئتين، فيسهل وصولها إلى الدماغ بعد خمس دقائق من الاستنشاق.
وتبخير الحرمل من الطرق المعروفة والمستعملة عادة في الطب الشعبي التقليدي، وكذلك عند السحرة والمشعوذين، فيزعمون أنه يطرد الحسد والعين ويزيل الخوف ويدفع الهم والغم ويعالج السحر والمس والعشق، وهناك من يرفقونه بالرقية الشرعية أو الحبة السوداء أو غيرها، حيث ينصحونهم بتبخير البيت به لطرد السحر والشياطين، وهذا مما لاشك فيه من الخزعبلات والخرافات التي ليس عليها دليل لا في الكتاب والسنة ولا في العلم التجريبي والدراسات، ولا تجد مكانها إلا في قلوب الجاهلين بشرع الله عز وجل، نسأل الله أن يرد بالمسلمين إلى الجادة.
أرجو أن أكون بهذا المقال قد بينت خطورة هذه العشبة المسماة بالحرمل، حتى يحذر الناس من استعمالها، سواء عن طريق الأكل أو التبخير، أما فيما يخص استعمالها للعينين والجلد، فليست لدينا بعد معطيات تبين ما يمكن أن تسببه من أضرار، والأفضل اجتنابها بالكلية، لما لها من أضرار على صحة الإنسان، فنسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.