الوجه الآخر لمسيرة تحرير (شبه جزيرة باديس) إعداد: مصطفى الحسناوي وإبراهيم بيدون

لم نتردد ونحن نقرأ النداء الذي أطلقته اللجنة الوطنية للمطالبة بتحرير سبتة ومليلية والجزر، من أجل المشاركة في مسيرة وطنية باتجاه شبه جزيرة باديس المحتلة من طرف العدو الإسباني، بتاريخ 03 أكتوبر 2012، وهو التاريخ الذي تزامن مع انعقاد: القمة العليا المغربية الإسبانية التي ترأسها كل من رئيسا الحكومة المغربية والحكومة الإسبانية بالعاصمة الإدارية الرباط.
النداء الذي أطلق من مدينة الناظور، حدد نقطة الالتقاء والانطلاق من مدينة أجدير بالقرب من الحسيمة، على الساعة التاسعة صباحا.
لم نتردد في اتخاذ قرار المشاركة في حدث بدا لنا تاريخيا بكل معنى الكلمة، وقبل ذلك هو واجب تمليه العقيدة والأخلاق والرجولة والشهامة، بل هو أقل الواجب تجاه ثغر محتل وأرض مغتصبة مسلوبة.
انطلق القطار يوم 2 أكتوبر من محطة سلا قاطعا تسع ساعات قبل أن يصل إلى مدينة الناظور على الساعة الحادية عشر ليلا، هناك قضينا ليلتنا قرب محطة سيارات الأجرة في ليلة باردة افترشنا فيها الأرض والتحفنا السماء ننتظر فرصتنا للظفر بأول رحلة باتجاه مدينة الحسيمة، خاصة وأن سفرنا صادف إضرابا عاما للحافلات على المستوى الوطني، كان الجو باردا والمكان لا يطمئن للاستمتاع بنومة هادئة ما اضطرنا للسهر ونحن نتبادل أطراف الحديث إلى ما بعد الثالثة ليلا، حيث اكتمل نصاب الرحلة، فانطلقت بنا سيارة الأجرة لمدينة الحسيمة، التي وصلناها مع أذان الفجر، فصلينا في مسجد قرب المحطة واتجهنا بعد الصلاة صوب إحدى مقاهي المدينة لتناول وجبة الفطور.
وعند اقتراب موعد انطلاق المسيرة توجهنا للمكان المخصص للتجمع والانطلاق بأجدير، حيث كنا قبل الموعد بساعة من الزمن، كل ذلك تحمسا منا للقضية ولنضمن أن لا تفوتنا لحظة من لحظات هذا الحدث، فضلا عن أن نتخلف عنه أو نضيعه.
أخذنا مكانا بإحدى المقاهي القريبة من مكان انطلاق المسيرة، وقررنا الاتصال برقم أحد المنظمين كان في ذيل النداء الذي تم توزيعه، حتى لا نتفاجأ بأي تغيير أو تعديل في النشاط المقرر انطلاقه، ظل هاتفه يرن لمرات ومرات؛ أخيرا قرر أن يجيب:
– نحن من الرباط جئنا من أجل المشاركة في المسيرة.
– مرحبا.
– هل الأمور كما هي لم يحدث أي تغيير أو تعديل؟
– كلا.
– ماذا علينا أن نفعل الآن؟
– تنتظروا فحسب.
– شكرا.
– مع السلامة.
هكذا كانت المهاتفة، التاسعة صباحا لا أثر لأي تجمع، العاشرة صباحا قدمت سيارة دفع رباعية بلوحة أرقام إسبانية، لينزل منها عدد من الأشخاص بأيديهم حواسيب وهواتف ذكية، وأخذوا مكانا بالقرب منا في المقهى، عرفنا من النقاش الدائر أنهم من اللجنة المنظمة، تبادلنا مع أحدهم الكلمات وطلبنا منه الإدلاء بتصريح، بحكم أننا من جريدة السبيل؛ فطلب أن نؤجل ذلك إلى عين المكان..
الساعة الحادية عشرة، لا أثر لأي تجمع أو توافد أو تقاطر للمشاركين، تقدمنا مجددا من نفس الشخص لنستفسره، لكنه بدا مرتبكا فأجابنا أنه ربما تم منع النشاط، لم نصدق ذلك، من سيمنعه؟ ولماذا؟ وكيف؟ وخمنا أنه ربما فشلت المبادرة فتم اختلاق قصة المنع.
فجأة تبخر المنظمون، وبدا مكان التجمع خاليا إلا من بعض الأفراد الذين لا يتجاوزون العشرة بينهم صحفيَيْن، فكرنا في الاتصال مجددا بالشخص الذي وضع رقمه رهن الإشارة، لكن بقي الهاتف يرن لمدة طويلة ولمرات ومرات، قبل أن يقفله نهائيا!!
في تلك الأثناء بدأت تمر أمامنا سيارات الأجرة والعربات والشاحنات الصغيرة محملة بالشباب والأعلام الوطنية والأمازيغية من غير توقف، لم نفلح في إقناع أي منها لاصطحابنا، رغم أننا التزمنا بالنداء كما تم توزيعه وأيضا بما جاء في مكالمة صاحبنا التي أكد لنا فيها أن لا شيء تغير، وهو التجمع في المكان المحدد من أجل الانطلاق جماعة، لكن يبدو أن التجمع تم في نقطة أخرى وقضي الأمر الذي فيه نستفتي المجهول.
فكرنا في أخذ سيارة أجرة على حسابنا، رغم أننا لا نعرف المكان تحديدا، لكن عقارب الساعة كانت تطاردنا فنحس بها تحاول إخراجنا من المنطقة وطردنا وإرجاعنا خاويا الوفاض، من دون حتى خفي حنين، أو الأحرى خفي يحيى يحيى المسؤول عن هذا النشاط.
أخيرا توقفت سيارة أجرة كبيرة، ونزل منها شخص يحمل أوراقا وملفات، كان يتحدث في هاتفه المحمول بدا كأنه ينسق ويوجه، فقصدناه كورقة أخيرة، كي لا يضيع مجهودنا هباء ويذهب حرصنا أدراج الرياح. سألناه هل أنت من اللجنة المنظمة فأجاب بالنفي، توسلناه أن يساعدنا في إيجاد وسيلة للوصول إلى الجزيرة لأننا جئنا من الرباط، وعلينا المشاركة في الحدث والرجوع في نفس الوقت، وأضفنا أننا مستعدان لدفع أي مقابل عن هذه الخدمة.
كان شخصا لطيفا أوقف سيارة أجرة كبيرة وأمر صاحبها بإيصالنا وإرجاعنا، تبين فيما بعد أنه مسؤول بنقابة سيارات الأجرة بالناظور، السائق أيضا تعامل مع أمر صاحبه كأنه إذن بأن يكتفي بأخذنا دون غيرنا وإرجاعنا معتقدا أننا شخصيات مهمة، فانطلق بنا كسائق شخصي، سعيدا بهذه الحمولة الخفيفة التي فاز بها دون سائر زملائه، لم يكتف بدور السائق بل كان دليلا سياحيا حيث كان يشرح ويفسر ويوضح كلما نصادفه في الطريق، قطعنا مسافة ثلاثين كيلومترا قبل أن نصل لمنطقة تسمى “احد الرواضي”، ثم قطعنا مسافة عشرين كيلومترا في طريق وعرة غير معبدة بين الجبال ووسط الشعاب والوديان، أخيرا بدأت تتراءى أمامنا شبه الجزيرة؛ وهي عبارة عن صخرة كبيرة شامخة تنبت وسط المياه، يحيط بها سواد وبياض، لم يكن البياض سوى أسطول من حوالي ثلاثين سيارة أجرة كبيرة، تكلفت بنقل المشاركين من مدينة الناظور، أما السواد فقد كان تشكيلات من رجال الأمن المغربي بخوذهم وأدرعهم وهراواتهم، بدوا لنا والله أعلم أن عددهم يفوق عدد المشاركين الذين كان جلهم من النساء والقاصرين والمراهقين فتيانا وفتيات، ترجلنا من السيارة وتوجهنا صوب تجمع المحتجين، لنتفاجأ بصور غير مشرفة وصادمة ومحزنة، ندمنا على إثرها أننا تكبدنا كل ذلك العناء من أجل لا شيء.
كان أول ما طالعنا من مناظر محزنة هو عدد المشاركين وطريقة تنظيمهم والشعارات التي يرفعونها، فقد كان العدد بين 150 و200 مشاركا على أعلى تقدير، يرفعون شعارات أشبه بأناشيد وأهازيج الأطفال.
المشاركون أغلبهم من سكان المناطق الداخلية، حيث لم تشارك الفعاليات الريفية وسكان إقليم الحسيمة والمناطق المجاورة والقريبة ولا حتى المحاذية للمستعمرة.
غياب اللجنة المنظمة بأعضائها ورئيسها، حيث بدا الأمر أشبه بلجنة افتراضية تحرك الناس عن طريق العالم الافتراضي وتتابعهم من خلاله.
استغلال أحد الناشطين الجمعويين المكناسيين غياب المنظمين، وتصوير فيديوهات وإعطاء تصريحات بدا من خلالها كأنه نظم النشاط وسهر عليه، وأعطى انطباعا من خلال الفيديوهات أن النشاط كان كبيرا ومشرفا، وهي طريقة للاسترزاق بالنضال بدأت تطفو وتتكرر للأسف خاصة من بعض المتسلقين والمسترزقين والمتاجرين بقضايا الوطن الذين يجيئون فقط من أجل أخذ صور وإعطاء تصريحات ثم التسلل بسياراتهم الفارهة.
دامت الوقفة حوالي نصف ساعة ليتسلل المنظم المتطفل دون إخبار أحد، مغادرا أرض المعركة بعد أن نفذ غزوته أمام الكاميرا متوعدا بالمزيد من النضال حتى تحرير آخر شبر، ليبقى بعدها المحتجون بلا رأس يقودهم، فتحولت الوقفة لرحلة استجمام، فضل البعض خلالها أخذ حصة سباحة، وفضل آخرون سباحة مختلطة وفرتها لهم اللجنة المنظمة، في حين كان بعض المراهقين يدخنون الحشيش، دون الحديث عن السجائر العادية.
أثناء تجولنا اقترب منا أحد المشاركين وسألنا هل أنتما صحفيين، أجبناه بالإثبات، فقال أن المنظمين وعدوه بتقاضي 120 درهم مقابل حضوره، لكنه لم يجد من وعده بين الحاضرين، بل لم يجد أيا ممن يمكن أن يتفاهم معه، معتبرا أنه تعرض لعملية تغرير وكذب واستغلال، مضيفا أنه قام هذا الصباح متوجها للموقف كعادته لعله يحصل على عمل كمياوم، وبينما هو في الموقف توقفت سيارة فخمة ونزل منها أحد الأشخاص تقدم منه وسأله هل تشتغل مقابل 120 درهما، ولما تساءل عن طبيعة العمل، أخبره هذا الشخص أن هناك من أساء للإسلام وهم بصدد تنظيم وقفة للتنديد بذلك، وأن الأمر يتطلب ساعتين فقط، ودون أن يعرف المزيد من المعلومات ولا حتى مكان الوقفة أو الجهة المنظمة ركب المسكين السيارة لتتجه به لمحطة سيارات الأجرة، هناك كانت أفواج المشاركين قسرا وغدرا وجهلا تساق إلى حيث لا تدري.
قضية استفادة البعض من 120 درهما أكدها عدد من المنظمين أنفسهم وقد جاء في تصريح لسعيد الشرامطي عضو اللجنة المنظمة ما يؤكد الأمر، وأضاف أن هناك من استفاد من مبلغ 50.000 درهم؟!
لم يدم الأمر أكثر من ساعة قبل أن تبدأ السيارات في التحرك، سألنا أحد الشباب هل قبضت أجرك، أجابنا متلعثما: أي أجر؟ فقلنا له: سمعنا أنهم تراجعوا عن دفع أجر المشاركين، فأجاب منفعلا: من الذي تراجع؟ قلنا له: هذا ما سمعنا، فأجابنا: لا؛ أنا الذي وعدني يقطن بحينا، وسأطرق باب منزله ليعطيني ما وعدني به، قلنا له: هل أتيت وحدك؟ أجابنا: أنهم مجموعة من شباب الحي وشاباته.
في تلك الأثناء كانت السيارات تغادر المكان مخلفة وراءها غبارا أبيض شكل حاجزا بينها وبين الجزيرة ومحتليها والحائط الأمني الذي شيد لصد المحتجين.
ركبنا رفقة سائقنا وانطلق بنا لنقطة البداية، كان جبل الجزيرة الذي تمخض فولد فأرا صغيرا جدا، يبتعد ويتوارى عن أنظارنا شيئا فشيئا، حتى لم يعد له أثر، قفلنا راجعين في دورة سفر عكسية، متعبة ومؤلمة هذه المرة، لأنها عكس سابقتها كانت بطعم خيبة الأمل، قضينا ليلتنا على متن القطار لم نذق خلالها طعم النوم لثاني ليلة، أصبح الصباح وترك الرجال الجهاد إلى النضال “اللايت” والاحتجاج المباح.
حين وصلنا كانت عدة أسئلة تموج في الذهن من قبيل:
ما السبب الذي جعل نشاطا مهما كهذا يفشل؟
هل الأمر له علاقة بالمنظمين أنفسهم أم بالتوقيت أم بضعف التواصل؟
لماذا التهاون في قضية مهمة ومصيرية كهذه؛ المفروض أن يحج لها الناس أفواجا أفواجا، زرافات ووحدانا؟
لماذا تخلف المنظمون عن حضور نشاط دعوا له؟
هل كان عدم استجابة الناس للدعوة لأسباب مرتبطة بالمنظمين؟
هل كان عدم استجابة الناس للدعوة وراء ترويج إشاعة منع السلطات للنشاط، ومن ثم اللجوء لقضية البيع والشراء التي تمت؟
ألا يضر هذا الأمر بقضية وطنية تاريخية ومصيرية؟
ألم يتم استحضار أن المراقبين والمتابعين الأجانب، بل المخابرات الأجنبية تتابع القضية خطوة بخطوة وتعد لأجل ذلك التقارير؟ فكيف تكون صورتنا بعد هذه المهزلة؟
هذه الأسئلة وغيرها نضعها بين يدي كل غيور، من أجل تقييم هذا الحدث واستقاء الدروس والعبر، نطرحها ببالغ الحزن والأسى، ونحن نرى كيف أن قضايا مصيرية ينزل بها بعض من لا مسؤولية ولا حس له إلى هذه المستنقعات، إما بسبب الاستهتار واللامبالاة؛ أو بسبب الأغراض والأطماع الشخصية والحزبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *