أبو يوسف يعقوب بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب… كان صافي السمرة جداً، جميل الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجرباً للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام الأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.
وكان سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم، حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهدا يلبس الصوف الخشن من الثياب.
بلغت أعمال أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الجليلة في دولته أوجها، حتى وصلت إلى أن حارب الخمور، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وقد أسقط الديون عن الأفراد وزاد كثيرا في العطاء للعلماء، ومال هو إلى مذهب ابن حزم الظاهري لكنه لم يفرضه على الناس، بل إنه أحرق الكثير من كتب الفروع وأمر بالاعتماد على كتاب الله وعلى كتب السنة الصحيحة.
وفي دولته اهتم أيضا أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالعمران، وقد أنشأ مدينة الرباط وسمّاها رباط الفتح، وأقام المستشفيات وغرس فيها الأشجار، وخصّص الأموال الثابتة لكل مريض، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وأيضا كان يجمع الزكاة بنفسه ويفرقها على أهلها، وكان كريما كثير الإنفاق حتى إنه وزّع في يوم عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء.
ذكر الذهبي رحمه الله في العبر: أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه ويناظر، وكان فصيحا مهيبا، يرتدي زي الزهّاد والعلماء ومع ذلك عليه جلالة الملوك.
أورد المراكشي ما يفيد براءة المنصور الموحدي من أفكار ابن تومرت الضالة جاء في “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” عن “المراكشي” قوله: أخبرني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري ونحن بحجر الكعبة قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف يا أبا العباس اشهد لي بين يدي الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة – يعني عصمة ابن تومرت – قال: وقال: لي يوماً وقد استأذنته في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس أين الإمام؟ أين الإمام؟
ويقول أيضًا: أخبرني شيخ ممن لقيته من أهل مدينة جيان من جزيرة الأندلس يسمى أبا بكر بن هانئ مشهور البيت هناك لقيته وقد علت سنه فرويت عنه، قال لي: لما رجع أمير المؤمنين -يعني المنصور الموحدي- من غزوة الأرك وهي التي أوقع فيها بالأدنفش وأصحابه؛ خرجنا نتلقاه فقدمني أهل البلد لتكليمه؛ فرفعت إليه؛ فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته، فلما فرغت من جوابه؛ سألني: كيف حالي في نفسي، فتشكرت له ودعوت بطول بقائه ثم قال لي: ما قرأت من العلم قلت: قرأت تواليف الإمام أعني ابن تومرت فنظر إلي نظرة المغضب وقال: ما هكذا يقول الطالب، إنما حكمك أن تقول قرأت كتاب الله وقرأت شيئاً من السنة ثم بعد هذا قل ما شئت…
وكان يقعد للناس عامة لا يحجب عنه أحد من صغير ولا كبير، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم فقضى بينهما. وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضرباً خفيفاً تأديباً لهما وقال لهما أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا، فكان هذا أيضاً مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره…
وفاته
قال ابن خلكان لما وصل المنصور إلى مراكش أمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السفر للتوجه إلى بلاد إفريقية، فاجتمع إليه مشايخ الموحدين وقالوا له يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس فمنا من له 5 سنين وغير ذلك، فتنعم علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة في أول سنة 595هـ فأجابهم إلى ذلك.
قال ابن خلكان وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره؛ فمن من قال أنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف حتى مات، ومنهم من قال أنه لما رجع إلى مراكش وتوفي في جمادى الأولى.