خالد شيري
من روائع شعر ناصيف اليازجي
قصيدة في مدح العلم وذم المال مع الجهل
لعمرك ليس فوق الأرض باق … ولا مما قضاه الله واق
وما للمرء حظ غير قوت … وثوب فوقه عقد النطاق
وما للميْت إلا قيد باع … ولو كانت له أرض العراق
وكم يمضي الفراق بلا لقاء … ولكن لا لقاء بلا فراق
أضل الناس في الدنيا سبيلاً … محب بات منها في وثاق
وأحسر ما يضيع العمر فيه … فضول المال تجمع للرفاق
وأفضل ما اشتغلت به كتاب … جليل نفعه حلو المذاق
وعشرة حاذق فطن لبيب … يفيدك من معانيه الدفاق
مضى ذكر الملوك بكل عصر … وذكر السوقة العلماء باق
وكم علم جنى مالاً وجاهاً … وكم مال جنى حرب السباق
وما نفع الدراهم مع جهول … يباع بدرهم وقت النفاق
إذا حمل النضار على نياق … فأي الفخر يحسب للنياق
وأقبح ما يكون غنى بخيل … يغص وماؤه ملء الزقاق
إذا ملكت يداه الفلس أمسى … رقيقاً ليس يطمع في العتاق
ألا يا جامع الأموال هلا … جمعت لها زماناً لافتراق
رأيتك تطلب الإبحار جهلاً … وأنت تكاد تغرق في السواقي
إذا أحرزت مال الأرض طراً … فما لك فوق عيشك من تراق
أتأكل كل يوم ألف كبش … وتلبس ألف طاق فوق طاق
فضول المال ذاهبة جزافاً … كماء صب في كأس دهاق
يفيض سدى وقد يسطو عليها … فينقص ملأها عند اندفاق
مضت دول العلوم الزهر قدماً … وقامت دولة الصفر الرفاق
وأبرزت الخلاعة معصميها … وبات الجهل ممدود الرواق
فأصبح يدعي بالسبق جهلاً … زعانف يعجزون عن اللحاق
إذا هلكت رجال الحي أضحى … صبي القوم يحلف بالطلاق
أسر الناس في الدنيا جهول … يفكر في اصطباح واغتياق
وأتعبهم رئيس كل يوم … يكون لكل ملسوع كراق
وأيسر كل موت موت عبد … فقير زاهد حسن السياق
فليس له على ما فات حزن … وليس بخائف مما يلاقي
وتلك الأمثال
ما يضرب به المثل في الثبات:
أثبت من قُرَاد
وَذَلِكَ أنه إِذْ لزم موضعا من جَسَد الْبَعِير لَا يُفَارِقهُ وعسر نَزعه.
أثبت من الوشم
وَهُوَ السوَاد الَّذِي تحشى بِهِ الْيَد وَغَيرهَا من أَعْضَاء الْبدن، وَلعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الواشمة والموتشمة.
أثبت فِي الدَّار من الْجِدَار
من قَول بعض الرُّجَّاز فِي طُفَيْلِيٍّ
أطفل من ليل على نَهَار … أثبت فِي الدَّار من الْجِدَار … كَأَنَّهُ فِي الدَّار رب الدَّار
((جمهرة الأمثال: العسكري)).
شموخ العربية
قال الصاحبي في كتابه «فقه اللغة»:
باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها:
قال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}؛ فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان. قال جلّ ثناؤه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة والنشايا المُتْقَنة. فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه.
فإن قال قائل: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَن أفْهَم بكلامه عَلَى شرط لغته فقد بَيَّن. قيل لَهُ: إِن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قَدْ يُعرِبُ عن نفسه حَتَّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قَدْ يدلُّ بإشارات وحركات لَهُ عَلَى أكثر مراده ثُمَّ لا يسمّى متكلماً، فضلا عن أن يُسمَّى بَيِّناً أَوْ بليغاً.
وإن أردت أنَّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غَلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذَلِكَ إِلاَّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة. فأين هَذَا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السَّعة مَا للغة العرب هَذَا مَا لا خفاء بِهِ عَلَى ذي نُهْيَة.
وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائرُ كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: «إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء» وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ}.
فإن قال قائل: فهل يوجد فِي سنن العرب ونظومها مَا يجري هَذَا المجرى؟ قيل لَهُ: إِن كلام الله جلّ ثناؤه أعلى وأرفع من أن يُضاهى أَوْ يُقابل أَوْ يعارض بِهِ كلام، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام العليّ الأعلى خالق كلّ لغة ولسان، لكنّ الشعراء قَدْ يؤمنون إيماءَ ويأتون بالكلام الَّذِي لو أراد مُريد نقْلُه لاعْتاص وَمَا أمكن إِلاَّ بمبسوطٍ من القول وكثير من اللفظ. ولو أراد أن يعبّر عن قول امرئ القيس:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
بالعربية فضلاً عن غيرها لطال عَلَيْهِ
وكذا قول القائل: «الظن عَلَى الكاذبِ». و«نِجارُها نارُها». و«عَيَّ بالأسْناف». و«انْشأِي يُرمَ لكِ».
و«هو باقِعة». و«قلبٌ لَو رَفع». و«عَلَى يَد فاخْضَمْ». و«شأنك إِلاَّ تركُه مُتفاقم». وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب اللغات.
ولو أراد معبرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن، والحق والباطل، والمبين والمشكل، والاعتزاز والاستسلام لعيّ بِهِ. والله جلّ ثناؤه أعلم حَيْثُ يجعل الفضل.
عودة إلى أشهر القصائد
لامية العرب
لامية عمرو بن مالك الأزدري المعروف بالشَّنْفَرَى صورة صادقة لنفسية الشعراء الصعاليك، وهم طائفة من الشعراء كفروا بالعشيرة، وعاشوا فرادى لا يفخرون إلا بالسيف والرمح. ولهذا كانت نفوسهم هي مدار كل الأغراض التي يتناولها شعرهم.
افتتحها بصرخة توقظ قومه من غفلتهم، وتعلمهم بأنه سيخالف كل التقاليد التي درجوا عليها، من تعظيم القبيلة والاعتزاز بها والتغني بلسانها فقال:
أقيموا بَنِي أُمّي صُدورَ مَطِيِّكم … فإني إلى قوم سواكم لأَمْيَلُ
فَقَد حُمَّتِ الحاجات والليل مُقمر … وشُدَّت لطَيَّات مطايا وأَرْحُل
وفي الأرض مَنْأًى للكريم عن الأذى … وفيها لمن خاف القِلى مُتَعَزَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئ … سَرَى راغبا أو راهبا وهْوَ يَعْقِل
سيرحل الشاعر بنفسه وروحه عن هؤلاء القوم الذين لا يعرفون قدره، ولا يرعون حقه، إلى معاشرة الوحوش الذين هم في نظره أحق بالصحبة وأهل أن يعاملهم بالكرم والتفضل، فقال:
ولي دونكم أهْلونَ سَيِّدٌ عَمَلَّسٌ … وأرْقَطُ زُهْلول وعَرْفَاءُ جَيْأَلُ
همُ الأهلُ لا مُستَودعُ السِّرِّ ذائِعٌ … لديهم ولا الجاني بما جر يُخْذَلُ
وكل أبِيٌّ باسلٌ غير أنني … إذا عَرَضَت أُولى الطَّرائد أَبْسَل
وإن مُدَّتِ الأيْدي إلى الزَّاد لَمْ أكن … بأعجلهم إذ أشْجَعُ القوم أَعْجَل.
وما ذاك إلا بسطةً عن تَفَضُّلٍ … عليهم وكان الأفضلَ المتفضلُ.
سيصحبهم الشاعر في الفيافي الموحشة متزودا في أهوالها بقلب جبار وسيف ماض وقوس متينة.
وإني كفاني فقدُ من ليس جازيا … بحسنى ولا في قربه مُتَعَلَّلُ.
ثلاثةُ أصحاب فؤاد مُشَيَّعٌ … وأبيض إصليت وصفراء عطيل
ثم يشرع في الفخر بنفسه ينفي عنها كل نقيصة تلبس بها غيره من ذلك قوله متهكما:
ولست بِمِهْياف يُعَشِّي سَوَامَه … مُجَدَّعَةً سُقْبانُها وهْيَ بُهَّلُ
ولا جُبَّإٍ أكْهَى مُرِبٍّ بِعِرْسِهِ … يُطالِعُها في شأنه كيف يَفْعَل
ولا خَرِقِ هَيْقٍ كأن فؤادَه … يظَل به المُكاءُ يعْلو ويسْفل
ولا خالفٍ دَارِيَّةً مُتَغَزِّلٍ … يروح ويغدو داهنا يَتَكَحَّلُ
ثم يستطرد في أوصاف وتشبيهات تدل على بعد خياله وقوة شاعريته. من ذلك، وصفه للذئب بعد تشبيه حاله بحاله:
وأغدو على القوت الزَّهيد كما غدا … أزَلٌّ تَهاداه التَنائِف أَطْحَلُ
غدا طاوِيًا يُعارضُ الريحَ هافِيًا … يَخُوتُ بأذناب الشِّعَاب وَيَعْسِلُ
فلما لواه القوت من حيث أَمَّهُ … دعا فأجابَتْه نظائرُ نُحَّلُ
مُهَلْهَلَةٌ شيبُ الوجوهِ كأنها … قِدَاحٌ بِكَفَّيْ ياسِرٍ تَتَقَلْقَلُ
ثم يسلي نفسه وهو مطلوب بثارات القبائل، إن أخطأه الطلب فقد يدركه يوما. فيقول:
فإن تبتئس بالشنفرى أمُّ قَسْطَلٍ … لمَاَ اغْتَبَطت بالشَّنفرى قَبلُ أطْوَلُ
وأم قسطل كنية الداهية.والمعنى أنه لو قُتل وافتقتده الدواهي. فقد قتل خلقا كثيرا كانوا حطبا لنارها.
وهكذا جمعت هذه القصيدة كثيرا من المحاسن، من جودة السبك، وقوة العبارة، وعذوبة الاسترسال، وترابط الأفكار، إضافة إلى صدق العاطفة. كل هذا جعلها تزاحم المعلقات في التنافس على الأفضلية في الشعر الجاهلي، وجعلها اللامية الفريدة بين ما أنشده الشعراء العرب على رَوِيِّ اللام.
فسحة الواحة
– لطم رجلٌ الأحنف بن قيسٍ سيد بني تميم، فقال له: لم فعلت هذا؟ قال: جعل لي جعلٌ على أن ألطم سيّد بني تميم؛ فقال: ما صنعت شيئاً، عليك بحارثة بن قدامة، فإنّه سيّد بني تميمٍ؛ فانطلق، فلطمه، فقطع يده.
– نظر بعض الحكماء إلى رجلٍ يرمي هدفاً، وسهامه تذهب يميناً وشمالاً، فقعد في وجه الهدف، فقيل له في ذلك، فقال: لم أر موضعاً أسلم منه.
– رمى رجلٌ عصفوراً، فأخطأه، فقال له رجلٌ: أحسنت؛ فغضب، وقال: تهزأ بي؟ قال: لا ولكن أحسنت إلى العصفور.
– قيل لبعضهم: أتحبّ أن تموت امرأتك؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال: أخاف أن أموت من الفرح.