صح عن النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، فحب النبي -صلى الله عليه وسلم- شرط لازم لإيمان من آمن من المسلمين، وهو من شروط الإيمان الصادق، وعلى هذا الأمر لا يختلف مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان.
ولهذا فأشد ما يؤذي المسلمين في كافة أنحاء العالم -على اختلاف وجهاتهم وانتماءاتهم- أن يتعرض نبيهم الأكرم للإيذاء، سواء بالسخرية أو السب أو أي مظهر من مظاهر الإيذاء التي تنتشر هذه الأيام في غالب دول العالم، سيما العالم الغربي -الذي أنهكته اللادينية- تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير.
وما حدث من قبل جريدة «شارلي إيبدو» الفرنسية طيلة السنوات الماضية مثل عنصر إيذاء واستفزاز للمسلمين الفرنسيين وغير الفرنسيين، حيث اعتادت هذه الصحيفة على رسم رسوم كاريكاتورية للسخرية من الإسلام ومن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أدى إلى تحرك المسلمين في فرنسا بدعاوى قضائية ضد هذه الجريدة، لكن القانون الفرنسي رفض هذه الدعاوى، وأقر أن الأمر راجع إلى حرية الرأي، ولا وجه قانوني يدين ما قامت به الجريدة!!
كلما كانت الجريدة تنشر رسماً مسيئاً للنبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- كانت تزداد الردود عليها، بل تعرض مقر الجريدة في إحدى المرات إلى التفجير، لكن لم يسفر الأمر عن أية إصابات، إلى أن قام مجهولان باقتحام مقر الصحيفة، وقتل ما يزيد عن عشرة عاملين بها، وعلى رأسهم رئيس تحريرها.
والسؤال الآن: هل انتهى المشهد وأُسدل الستار، وانتهت الإساءات للنبي -صلى الله عليه وسلم- وانتهى دور جريدة «شارلي إيبدو»؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نقر بأن الموقف الشرعي من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- معروف للجميع، ولا يكاد يختلف عليه مسلم واحد.
فسب النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعظم المحرمات، وهو كفر وردة عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك جاداًّ أم هازلاً، وأن فاعله يقتل ولو تاب، مسلما كان أم كافراً، والأمر في هذا موكول إلى الحاكم المسلم، وليس إلى أفراد الناس. كما نص على ذلك علماء الإسلام وفقهاؤه في كتبهم.
وبالنسبة لغير المسلم، فكما يقال ليس بعد الكفر ذنب، فهو كافر أصلا، والنصارى وغيرهم لا يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب بل يؤذون الخالق -جل وعلا- باعتقاداتهم فيه، وإنكارهم له، ووصفه بالأوصاف التي لا تجوز في حقه تعالى، والموقف منهم يختلف باختلاف أحوالهم وتداعيات الأمر على المسلمين والإسلام بصفة عامة، ولسنا هنا في مقام بسط هذا الأمر وتحريره، لكن الموقف العام من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كفر وأن الرضا به كفر أيضاً.
وفيما يخص الموقف من حادثة القتل التي تعرض لها الصحفيون المسيئون للنبي -صلى الله عليه وسلم- لنا عدة وقفات:
– أولا أننا برغم غضبتنا الشديدة مما فعلته هذه الجريدة؛ من الإيذاء الشديد لسيد الخلق أجمعين، إلا أن الموقف الصحيح من مهاجمة الجريدة، وقتل من فيها، هو الاستنكار الواضح، والإدانة الكاملة لهذه الفعلة شرعاً وواقعاً، خصوصاً وأنها لن يترتب عليها أي نفع، بل كلها شر وضرر للفاعل وللمسلمين جميعاً.
– حقيقة الأمر أن القضية لم تنته بعد، بل نجمت عنها آثار في منتهى السوء يُسمع صداها الآن في الإعلام الغربي والعربي على السواء، ولو استطاع الغربيون استثمار هذه الحادثة، ستتحول إلى 11 سبتمبر آخر، ليُزهق بموجبها مئات الآلاف من المسلمين، بل قد تُحتل بسببها دول إسلامية كاملة، بحسب تحليلات خبراء ومراقبين.
– على الصعيد الفرنسي يعاني المسلمون في فرنسا منذ حدوث هذه الحادثة -وما قبلها- معاناة شديدة، سيما وأن اليمين الفرنسي في فرنسا يحمل من العداء ما يكفيه لتحويل مثل هذه الحادثة إلى ملحمة «مظلومية»، سيكون الخاسر الأول والأخير فيها هم المسلمون، وجدير بالذكر أن الإسلام في فرنسا يمثل ثاني أكبر ديانة بعد المسيحية، فتخيل مدى الفساد الحاصل من وراء هذه الحادثة التي سيتم توظيفها بشكل سيئ.
– سياسة هذه الجريدة لا تعادي الإسلام فحسب، بل تعادي كافة الديانات، وعلى صفحاتها أهينت المسيحية وأهين رجالها، فقد سخرت من بابا الفاتيكان أيضًا، بشكل لا يقل عن سخريتها من الشخصيات الإسلامية، لكن التحرك الإسلامي غير المدروس والفردية في التعامل قد تُحول هذه الجريدة إلى منبر دائم لمهاجمة الإسلام والمسلمين.
– حادثة القتل لم تحدث عقب نشر رسوم مسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل كانت هناك شبه هدنة من قبل الجريدة، فلم تنشر منذ زمن أية إساءات للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما يضع أمام هذه الحادثة عدة علامات استفهام (كبيرة).
– عقب هذه الحادثة زاد التعاطف الغربي تجاه رسامي الجريدة المسيئة، وفي المقابل بدأت تتشكل صورة ذهنية لدى الغربي عن الإسلام والمسلمين أسوأ مما كان في السابق.
تلك كانت وقفات سريعة مع حادثة جريدة «شارلي إيبدو» المسيئة علها تكون سبيلاً لفهم القضية وأبعادها، فعلى القارئ تدبر تلك النقاط قبل تبني أية آراء عاطفية أو وجهات لا تلتفت إلى المآلات والتداعيات.
مركز التأصيل للدراسات والبحوث