«السياسة من أمر الدنيا»

مَن قال من علماء الأمة من المصنفين في الأصول والمقاصد ومن المنشغلين بالفروع أن الشيء إذا خرج من صنف العبادات، صار من ”أمور الدنيا” بالمفهوم العلماني المفرق بين الدين والدنيا، فخرج إذن من سلطة الدين، ولم يعد لفقهاء الشريعة فيه نظر؟!

إذا التزمنا كون السياسة من أمور الدنيا، فلسنا نعني بها أنها خارجة عن تأطير الدين، بل غاية الأمر أنها خارجة عن معنى العبادة، بمعناها الاصطلاحي الخاص
هذا مثال آخر على ما يقع بسبب الإجمال في الألفاظ من أغلاط في المعاني، وانحرافات في المفاهيم.
هل السياسة من أمور الدنيا حقا؟
أما أنا فلا أجيب في هذا السؤال بسلب ولا إيجاب!
وذلك أنني أحتاج أولا إلى تقرير معنيين اثنين: معنى ”السياسة” ومعنى “أمور الدنيا”.
أما لفظ السياسة فيطلق في التراث الإسلامي ويراد به مطلق التدبير الدنيوي للرعية، والذي يهدف إلى تحصيل الأمن واستتباب سلطة الحاكم، ولو بالعسف ومخالفة حكم الشرع. ويكون اللفظ حينئذ محمّلا بمعنى الذم، كما في قول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وهيبة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا”( 1). وكقول أحد الوزراء لأخيه حين قام إجلالا للإمام محمد بن نصر المروزي: “أنت والي خراسان تقوم لرجل من الرعية؟ هذا ذهاب السياسة”( 2). ونحو ذلك كثير.
ويطلق لفظ السياسة أيضا على القيام على شأن الرعية من طرف ولاتهم بما يُصلحهم شرعا، مع ما يحتاج إليه ذلك من تنظيمات إدارية تحقق المصالح للرعية وتدفع عنهم المفاسد. وهي بهذا المعنى محل مدح، وتسمى “سياسة شرعية”، يعتني بوضع أصولها وتحرير مسائلها فقهاءُ الشريعة.
فالسياسة بالمعنى الأول دنيوية خالصة.
وأما بالمعنى الثاني -وهي المقصودة بالبحث والنقاش- فهل هي من “أمور الدنيا”؟
من الصحيح أننا يمكن أن نصنف السياسة ضمن العاديات المقابلة للتعبدات(3 ). لكن: هل دخولها في مجال العادات والمعاملات يقتضي أنه ليس لله فيها حكم؟
مَن قال من علماء الأمة -من المصنفين في الأصول والمقاصد ومن المنشغلين بالفروع- أن الشيء إذا خرج من صنف العبادات، صار من ”أمور الدنيا” بالمفهوم العلماني المفرق بين الدين والدنيا، فخرج إذن من سلطة الدين، ولم يعد لفقهاء الشريعة فيه نظر؟!
الجواب: لم يقل بذلك أحد!
وحين نقول -تبعا لجماعة من الأصوليين- أن استصحاب أصل الإباحة كثيرٌ إعمالُه في مجال العاديات، فإنما نعني صورةَ انتفاء الأدلة الأصولية الأخرى. ومن المعلوم أن الاستصحاب أضعفُ الأدلة، لأنه إنما يصار إليه عند عدم غيره.
وعلى هذا، فإذا وجد الدليل الصحيح الصريح على حكم شرعي في ميدان السياسة -وهذا كثير-، وجب المصير إليه، وترك التعلق باستصحاب الأصل. وضوحه لدينا، مما ينبغي أن يُجهر به أمام العلمانيين الذين لا يفهمون من قول القائل “السياسة من أمور الدنيا” إلا المعنى العلماني المتضمن في العبارة المنسوبة إلى عيسى عليه السلام: “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”!
أما نحن، فإذا التزمنا كون السياسة من أمور الدنيا، فلسنا نعني بها أنها خارجة عن تأطير الدين، بل غاية الأمر أنها خارجة عن معنى العبادة، بمعناها الاصطلاحي الخاص( 4).
مرة أخرى: يقع التلبيس في الألفاظ بآلية عجيبة، نحتاج إلى تفكيكها لتيسير تحليلها!
يبدأ الأمر باستعارة المصطلح العلماني المفروض في الثقافة المهيمنة، ثم يُبحث له -بوساطة دلالة لغوية أو تأويلية- عن معنى شرعي مقبول، ثم يلبس المصطلح العلماني -في مقام التأصيل- هذا المعنى الشرعي، ثم يُعرض المصطلح بعد أن اكتسب القبول التأصيلي -في مقام الخطاب العام- عاريا من لباسه (معناه) الشرعي، ويقع بسبب ذلك تكريس المعنى العلماني والتطبيع معه!
وتطبيق ذلك في مسألتنا:
• “السياسة من أمور الدنيا”، تعبير ذو حمولة علمانية مرفوضة.
• التأصيل الشرعي: أقصد بأمور الدنيا أنه ليس من العبادات بل من العاديات، التي يغلب فيها النظر المصلحي الدنيوي. فالتعبير صحيح شرعا بهذا المعنى.
• الخطاب السياسي المعروض أمام الجميع: “السياسة من أمور الدنيا” تعبير مقبول شرعا، دون قيد ولا شرط.
ويُسدل الستار..
ونمر إلى قضية أخرى، وإلى مزيد من التهاوي أمام معاول العلمانية المتسلطة!
نعم نحتاج مرة أخرى أن نوضح في مواطن الإجمال، فنقول: يوجد نظام سياسي إسلامي! (ونرجو أننا بهذا القول الموافق لتأصيل جمهرة الفقهاء نفهم أشياء كثيرة، ولسنا ممن لا يفهم شيئا!).
وليس المقصود بذلك الآليات الإجرائية، التي نقر أن كثيرا منها يخضع للمصلحة المرسلة. ولكن المقصود أنه النظام السياسي الذي يجعل الإسلام مرجعية مهيمنة، تؤطر وترشد، وتَحكُم ولا يُحكَم عليها.
ولأجل ذلك ساغ لنا أن ننسبه إلى الإسلام، فنقول هو نظام سياسي إسلامي. والعبرة بالمعاني والمسميات، لا بالألفاظ والأسماء.
وهذا النظام السياسي بهذا المعنى: شيء لا تقبله الأنظمة العلمانية الغربية، وهو شيء لا يقبلُ الإسلامُ غيرَه!
فلنختر لأنفسنا..
—————————-
1 – الفتاوى الكبرى: 6/43.
2 – سير أعلام النبلاء: 17/36.
3 – مع أننا ننازع في بعض هذا التصنيف، لأن من مهمة الحاكم في الإسلام إقامة العبادات أيضا، لكننا نسلّم بهذا التصنيف تجاوزا لأن الغالب على الحاكم هو الاشتغال بحفظ مصالح النفس والعقل والنسل والمال، مما يدخل في إطار العاديات.
4 – أي: بمعنى الأنساك والشعائر التعبدية الخاصة. وللعبادة معنى عام يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *