رفعت في أوروبا شعارات ومطالب الحرية مبكرا جدا، وفي الوقت الذي كانت تدبج البيانات وتصدر المقالات وتضع القوانين لحفظ الحريات والدفاع عنها، كانت تذبح شعوب العالم الثالث، وتستعمرهم وتستعبدهم، دون أي شعور بأي عقدة أو تناقض أو ذنب أو خجل أو حرج.
استعبدت أوروبا عشرات ملايين البشر، واحتلت بلدانهم ونهبت خيراتهم وقتلت منهم الملايين، ومع ذلك تبجحت بميثاق حقوق الإنسان وبالحرية والحقوق.
انتهت فترت الاحتلال، وتغير وجه أوروبا، ونالت البلدان الإسلامية استقلالها الشكلي، وفتح الغرب صفحة جديدة مع المسلمين، فاستقطب منهم ما يكفي لسد حاجاته من اليد العاملة، وأعطاهم حقوقا عديدة، مقابل الاستفادة من خدماتهم وجلدهم وصبرهم، وبدأت أسطوانة جنة الغرب وإنسانيته المبهرة.
فجأة استفاق الناس من هذا الحلم الوردي، على دعوات أوروبية عنصرية، تنضح بالحقد والكراهية والإقصاء والتمييز، تارة بإلغاء مقابر المسلمين وحظر المساجد، وأخرى بمنع الحجاب ورفض النقاب ومرة بمنع ذبح الأضحيات وأخرى بمنع الأذان، وبالاستهزاء بمقدسات المسلمين، وبرسم نبيهم وحرق مصحفهم، وحتي حوادث قتل واغتيالات بحقهم، كتلك الجريمة التي وقعت في ألمانيا، في مدينة دريسدن، حين قُتلت الدكتورة مروة الشربيني طعنا بالسكين من عنصري ألماني؛ بسبب تَمسكها بحجابها، وعندما أسرع إليها زوجها أُطلق عليه النار من الشرطة الألمانية؛ بسبب بشرته السمراء العربية.
وما جرى بالقُرب من مسجد يجري بناؤه في حي هارو في لندن، وعقب صلاة الجمعة؛ نظمت منظمة تطلق على نفسها اسم: “أوقفوا مظاهر الأسلمة في أوربا” – مظاهرة ضد المسلمين، وقال أحدهم -واسمه ستيفن جاش- من حركة “أوقفوا مظاهر الأسلمة في أوروبا”: إنَّنا ضد بناء مساجد جديدة.
وقبل ذلك بأسبوع كانت مظاهرة في برمنجهام بوسط إنجلترا ضد المسلمين نظمتها “رابطة الدفاع الإنجليزية اليمينيَّة المتطرفة”، وحوادث التعدي على المسلمين لا تنتهي في بريطانيا، كان أشهرها في يوم جمعة أيضًا الاعتداء على إمام مسجد أزهري، وَفَقْءَ عينه، بواسطة صليبي بريطاني.
وفي إيطاليا حرقت مساجد في مدينة ميلانو أعلنت مسؤوليتها عنهم جماعة اسمها الجبهة المسيحية المقاتلة.
وفي بلجيكا دَعَت وزيرة الداخليَّة، في حديث لمجلة فالتر البلجيكية إلى حظر الحجاب؛ لأنَّه يتنافى مع قيم المجتمع، وظهرت في بلجيكا جماعة اسمها “أوقفوا الإسلام بأروبا”.
وصدر تقرير بعنوان: التعصُّب والتميُّز ضد مسلمي أوروبا، صادر من اتِّحاد هلسنكي لحقوق الإنسان، تضمَّن التقرير تزايد التعصُّب ضد المسلمين في كل من النمسا وبلجيكا والدنمارك، وإيطاليا والسويد، وفرنسا وهولندا، وأنَّ مظاهر ذلك التعصُّب تنوعت من اعتداءات جسدية، إلى مُضايقات لفظيَّة، إلى تخريب ضدَّ مُمتلكات ومظاهر إسلامية، كالمساجد والقبور، وأشار التقرير بوضوح إلى دَوْر الإعلام الغربي في تغذية التعصُّب وكراهية الإسلام.
وآخر ما وقع من أحداث عنصرية، هو اهتزاز فرنسا كلها عن بكرة أبيها، قبل شهر فقط، بسبب حجاب طالبة تبلغ من العمر 19 سنة هي مريم بوجيتو، حيث قالت وزيرة الدولة المكلفة بالمساواة بين الرجال والنساء، مارلين شيابا، إن الأمر يعد “شكلا من أشكال الترويج للإسلام السياسي”، ووصف وزير الداخلية الفرنسي، ظهور بوجيتو بالحجاب بأنه “استفزاز” وعمل “صادم” له.
إن ما ذكرناه من إساءة وعنصرية وتحريض، لا يقتصر على المجرمين أو المواطنين العاديين، بل تعداه لرجال السياسة والفكر وحتى كبار “رجال الدين”، تحريض واضح وإساءة واضحة ضد المسلمين ونبيهم ودينهم، وليس مستغربًا بعد ذلك أن تنتشر في أوروبا حركات اضطهاد المسلمين، ولكن المثير للعجب هو سيل الكذب المفضوح من حكومات الدُّول الغربية عن الحريات الدينية والمساواة والعدل في بلادهم، في الوقت الذي تنتشر فيه وقائع الاضطهاد ضد المسلمين في أوربا بسبب دينهم، وليس بسبب أي موقف سياسي مثلاً ضد الدول التي يعيشون فيها.
الأمر لا يتعلق فقط بالموقف من المسلمين ومحاصرة حرياتهم والتضييق عليهم، بل مجموعة من الحريات الفردية التي لا تتعلق بالمسلمين، يتفاوت الاعتراف بها أو تبنيها أو تطبيقها في عدد من البلدان الأوربية، من المثلية التي لاتزال مرفوضة مجتمعيا على الرغم من الاعتراف بها قانونيا، إلى الإجهاض، إلى الموقف من اليهود والتشكيك في المحرقة… وغيرها من الحريات الممنوعة أو الجزئية أو المقيدة، في دول أوروبا وأمريكا.
إن ما تطرقنا إليه أعلاه، من مفارقات بين الحرية والمصالح والخصوصيات، ليؤكد بجلاء نسبية تلك الحريات عند من أطلقوها وتبنوها، وأنها حريات مقيدة بالمصلحة والخصوصية، وليست حرية مطلقة دون أي ضابط.