تاريخ العلاقة بين الفاتيكان والعالم الإسلامي

صحيح أن حاضرة الفاتيكان دولة دينية، ولكنها دولة نشيطة على المستوى السياسي أيضا، وإن بدا هذا الدور مغمورا أحيانا، بدعوى الحرص على الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي.

وإدراكا لهذا الدور السياسي والثقل الروحي لدولة الفاتيكان، نجد الكثير من الصحف الغربية تضمّ في طواقمها ما يعرف بـ”الفاتيكانيست”، أي المتخصص في الشأن الفاتيكاني، يتولى بالتحليل أنشطة الفاتيكان الدينية والسياسية.

للأسف رغم الأدوار الروحية التنصيرية والتبشيرية والسياسية الاختراقية للفاتيكان، داخل دول العالم الإسلامي، لكن ليس هناك اهتماما بالموضوع، ولا تسليطا للضوء على هذه القضية، وأقصد علاقة الفاتيكان بالعالم الإسلامي، في هذه الورقة سنحاول إعطاء نبذة تاريخية عن هذه العلاقة.

في عام 1839 ميلادية، كان محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، قد أرسل وفدا إلى روما؛ لأنه كان يعي الوزن الدولي للبابوية، ومع حلول عام 1947 كانت علاقة جديدة تنشأ بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، حيث أقام “البابا بيوس” كأول شخصية قانونية دولية معترف بها عالميا، علاقات دبلوماسية دائمة مع أول دولة إسلامية، وهي مصر.

استغل “البابا بيوس الثاني عشر” بدوره رغبة الدول في العالم الثالث، والعهدة هنا على الراوي الكاتب الألماني “هاينزيواكيم فيشر” في مؤلفه الشهير “بين روما ومكة.. الباباوات والإسلام“، في الاعتراف الدولي؛ فمنذ فقدان دولة الكنيسة، أي فقدان سيطرة الكنيسة سياسيا على الدول المسيحية، تدعمت السلطة الأخلاقية المعنوية للباباوات؛ ما شجع الحكومات في جميع أنحاء العالم على السعي إلى اعتراف الفاتيكان بها، ولهذا يذهب اللاهوتي والباحث الكاثوليكي الأمريكي الشهير “جورج ويجل”، إلى أن البابوية وإن فقدت أملاكها، فإنها لا تزال قوة إقناع معنوية وسلطة أدبية رفيعة القدر.

كان الاعتراف من قبل الحبر الأعظم، مدعما بتبادل العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان، يعد في كثير من الأحيان خاتمة للتطبيع الدولي مع الدول الناشئة التي تحررت من القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، وأصبحت مستقلة.

وهكذا سارعت للسير على خطى مصر دول إسلامية أخرى مثل إندونيسيا وسوريا وإيران وتركيا وباكستان، والمملكة الأردنية الهاشمية، التي كانت في ذلك الوقت تشرف على الأماكن المسيحية المقدسة.

ومع حلول عام 1951 أجرى “البابا بيوس الثاني عشر” لقاء مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا، الذي لخص لاحقا نتيجة لقائه البابا قائلا: “إن العرب أيضا يرون أن رئيس الكنيسة الكاثوليكية، انطلاقا من رسالته العالمية، يعد من أبرز المدافعين عن ذلك التراث الروحي الأعلى والأثمن، الذي تتأسس عليه عقيدة الإسلام وعقيدة المسيحية على حد سواء؛ فالتشارك الروحي بين المسيحية والإسلام سيقود إلى إقامة جبهة مشتركة، تشمل أكثر من نصف البشرية”.

كانت تلك مرحلة أولى من علاقة الكاثوليكية بالعالم الإسلامي في القرن العشرين، وهذا يعني أن القائمين على الجانبين في ذلك الوقت أدركوا أن الأهداف المشتركة مع الاعتراف الموحد بإله واحد في مواجهة الإلحاد المتنامي، كما كان الحال في معسكر السيطرة الشيوعية، تعد ذات قيمة تتفوق على ما يفصل بين الأديان من حواجز، بالإضافة إلى أن الدول الإسلامية كانت تثمن خدمات الوساطة الحسنة لدبلوماسية الفاتيكان في عهد بيوس الثاني عشر، سواء فيما يخص الصراع على فلسطين بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، أو فيما يتعلق بحرب الجزائر بين فرنسا وجبهة التحرير الوطنية.

كان رؤساء حكومات ووزراء الدول الإسلامية خلال زياراتهم لروما يولون أهمية للسماح باستقبالهم من طرف ممثلي الفاتيكان، وليس من قبل نظرائهم من السياسيين الإيطاليين فحسب.

ومردّ ذلك أن الظهور في صورة مع البابا كانت له جاذبية إنسانية وأهمية سياسية، بناء على ذلك قام البابا بيوس الثاني عشر باغتنام هذه الفرص التي تتيحها العلاقات الدولية، إلا أن الوقت لم يكن قد نضج لأكثر من هذا وقتها، وهو ما سيحين دوره عام 1958 أي بعد وفاته وتولي بابا آخر مقاليد رئاسة الكرسي الرسولي وبدء تدشين مرحلة أشد عمقا من الانفتاح والحوار والجوار مع العالم الإسلامي عبر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.

على أن بيوس الثاني عشر ترك أساسا قويا تاريخيا في منتصف القرن الماضي بين الكاثوليكية والإسلام وبقية الأديان؛ ففي منتصف الحرب العالمية الثانية، وبمناسبة عيد العنصرة عام 1943، ألقى كلمة مثل الكثير من كلماته، التي قلما سمعها أحد، ناهيك عن تجاوبه معها، لكنها عدت وصية حكيمة لجميع الأديان؛ إذ قال: “ليس بالهدم، وإنما بالتطوير والوئام يكون الخلاص والعدل؛ فالعنف كان يهدم دائما ولا يبني أبدا، يثير مشاعر الهلع ولا يهدئها مطلقا، ويقذف دائما بالبشر إلى الضرورة القاسية، التي تجعلهم بعد المحن الأليمة، يسيرون على أنقاض الفتنة لإعادة البناء بصعوبة بالغة”.

رحل بيوس الثاني عشر، وأتى بعده ست باباوات، آخرهم فرنسيس، الذي يحل بالمغرب، بعد زيارة للإمارات، وكلهم يسيرون على نفس الخطى، في الاختراق، ومحاولات إيجاد موطئ قدم، وخلق أقليات تابعة للفاتيكان، داخل البلدان الإسلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *