كثير من المراكز الأمريكية والبريطانية الناشطة في الخليج، تقوم باستطلاعات مدفوعة الأجر، أو تلميع سياسة جاهزة ومحاولة تسويقها، أو تقديم مستندات معرفية تبريرية لها.. لكن صناعتها البحثية، إن صح هذا التعبير، لا تحظى بأي قيمة علمية ومعرفية في المجتمع البحثي الأكاديمي.. |
التليدي*: هناك مراكز بحثية تقوم بجهد كبير لتوطين الفكر العلماني في الوطن العربي
- ما هو الدور الذي تلعبه مراكز الدراسات في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية؟
في الواقع، يختصر دور المراكز البحثية في تطوير المعرفة العلمية للظواهر والقضايا المدروسة، وتحقيق در من التراكم فيها. وبقدر ما ينضج العمل البحثي، يتحول تدريجيا من الإطار الوصفي المقتصر على الرصد وتجميع المعطيات وتنظيمها وتنسيقها، إلى مرحلة تالية، هي التحليل والبحث عن الروابط القائمة بين الأحداث والوقائع، فإذا تحقق قدر من التراكم في مجال التحليل، وأصبحت المؤشرات كافية لبناء رؤية تحليلية علمية، استمر هذا التقليد لفترة طويلة، يدرس قضية واحدة، فإن المحصل من البحث العلمي، يؤهل الباحث للاستشراف، واحتمال السيناريوهات الممكنة، وما يمكن أن يحدث في المستقبل بناء على خلاصة الخبرة المحصلة في الموضوع.هذه العملية الثلاثية، التي تبدأ بالوصف وتنتهي بالاستشراف مرورا بمرحلة التحليل، تبني الخبرات العلمية التي تصير مطلوبة لتقديم الرأي في الملفات التي تشتغل عليها، وإذ ذاك، تصير إما خبرات فنية تطلب استشارتها من قبل نخب الحكم في مختلف المستويات، أو تصير في خدمة لوبيات أو أحزاب أو مؤسسات، تسعى إلى التأثير على القرار السياسي وعلى السياسات الحكومية في مختلف القطاعات الحيوية.في التجربة ألأمريكية والبريطانية، نضجت الصناعة البحثية وتطورت بشكل كبير، حتى صارت العديد من المؤسسات والأحزاب والجمعيات والكنائس، تضع ضمن أولوياتها تأسيس هذه المراكز ودعمها وإسنادها حتى تقدم لها الخبرة، وترشد قرارها، وتبصرها بخيارات العمل والمخاطر المفترضة وأوجه الخروج منها أو تلافيها.وثمة مراكز أبحاث، من هذه الشاكلة، أسسها رجال أعمال كبار، ضمن وقفيات شهيرة، مثل وقفية معهد كارنيجي للسلام الدولي، يتعدى دورها، دراسة السياسات وتحليليها واستشرافها، إلى تقديم توصيات للإدارة الأمريكية حول كيفية التعاطي مع قضايا عديدة تهم الأولويات التي توضع في اللوحة الاستراتيجية للسياسة الأمريكية.وثمة لوبيات سياسية، تقوم بالدور نفسه، فتنشئ مراكز للتأثير في هذه السياسات، تحقيقا لأجندتها الخاصة، مثل ما يفعل اللوبي الصهيوني بمركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذي ينتقد ويوجه الإدارة الأمريكية، ويقدم التوصيات التي تخدم الأمن الإسرائيلي.
- كيف حاربت مراكز الدراسات أصول الإسلام العقدية والتشريعية “مؤمنون بلا حدود أنموذجا”؟
في العالم العربي، لا توجد تقاليد عريقة في الصناعة البحثية، أقصد إقامة مراكز أو مستودعات تفكير (thinkthank) بالشكل الذي عليه الأمر في العالم الغربي، فثمة سلطات أو مراكز ثقل داخل السلطة، أو محاور إقليمية، تحمل هما استراتيجيا في المنطقة، وتسعى لامتلاك أذرع ناعمة للتأثير لتحقيق تمددها الإقليمي، فتعتمد الإعلام أو الصناعة البحثية الموجة، أو تعتمد دبلوماسية ثقافية وعلمية لاستقطاب نخب واسعة في العالم العربي وجعلها تدور في فلكها.والمركز الذي ذكرت في سؤالك، ينتمي لأجندة دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تحمل عداء فكريا وسياسيا للحركات الإسلامية، وترى أنها تمثل عائقا ضد تمدد مشروعها السياسي في المنطقة.ولذلك، تجد خياراتها المعرفية، تنحو منحى التأصيل للفكرة العلمانية، وإقامة جسور التواصل بين العلمنة والفكر العرفاني، وأحيانا الفكر الطرقي، ونبذ الفكر الديني وما يعتبر في تصورها أرضية فكرية لحركات الإسلام السياسي، في حين تنحو خياراتها السياسة منحى الاقتراب مع المشروع التغريبي والصهيوني، وذلك من خلال أجندة ذرائعية تعتمد فكرة الانفتاح والتسامح وحوار الأديان.
- كيف حاولت هذه المراكز محاصرة “الإسلام السياسي”؟
في تصوري، المراكز البحثية حتى وهي تقدم خدمة لدولة أو سلطة أو لوبي من اللوبيات، لا تنجح إذا انزاحت عن مهمتها البحثية بمستوياتها الثلاثة الوصفية والتحليلية والاستشرافية، فالمراكز البحثية حين تصير أداة في يد أي سلطة غير علمية، تنقل وظيفة هذه المراكز، فتصير منتجة لأشياء أخرى غير المعرفة، وذلك على شاكلة بعض المراكز البحثية ذات الوظيفة التجارية، التي يؤتى بها للقيام باستطلاعات مدفوعة الأجر، أو لتلميع سياسة جاهزة ومحاولة تسويقها أو تقديم مستندات معرفية تبريرية لها، وكثير من المراكز الأمريكية والبريطانية ناشطة في منطقة الخليج تقوم بهذه الوظائف، لكن صناعتها البحثية -إن صح هذا التعبير- لا تحظى بأي قيمة علمية ومعرفية في المجتمع البحثي الأكاديمي.كان يمكن لمثل هذه المراكز التي يطلب منها تقديم خدمة معرفية لمحاصرة الحركات الإسلامية، ألا يتم التدخل في تحديد أهدافها وأجندتها، فتصير هذه المراكز ذات وظيفة علمية، تختص بمراقبة سلوك الإسلاميين وأطروحاتهم وبحث تناقضاتهم ونقاط ضعفهم، وتقديم ذلك في شكل دراسات أو تقارير علمية تتمتع بمصداقية في المجتمع الأكاديمي، لكن مشكلة هذه المراكز لاسيما في العالم العربي، أنها انزاحت عن مهمتها العلمية، وانخرطت في حروب الدعاية والدعاية المضادة ففقدت صدقيتها، وما نراه من ثورة مالية ضخمة رصدت لدعم حركة النشر في بعض المراكز البحثية مثل مركز مؤمنون بلا حدود، إذا ما قورن بحجم التداول الضئيل والمحدود، يكشف مشكلة أن المصداقية العلمية حين تغيب، لا ينفع معها رصد المبالغ الضخمة.لقد قامت هذه المراكز بجهد كبير في نقد الفكر الديني، وفي توطين الفكر العلماني في الوطن العربي، ولم تتوقف عن ممارسة الدعاية والحرب الإيديولوجية ضد حركات الإسلام السياسي، وقامت إضافة إلى الجهد الفكري والإعلامي ببناء شبكة مثقفين في الوطن العربي، تعهدت رعايتها من خلال استكتابهم في مواقع إلكترونية ومجلات بحثية محكمة وكتب وندوات ومؤتمرات بل مضت في نسج علاقات بجامعات دول العالم العربي وأخرى في أوربا وأمريكا، وحاولت استقطاب كل الشعب ذات العلاقة بالإنتاج الفلسفي وبالفكر الإسلامي، لكنها في نهاية المطاف، لم تقدم أي جهد معرفي رصين في النقد العلمي للحركات الإسلامية، فغالبت فعالياتها نضج منتوجها العلمي، ولم تحظ بأي تصنيف علمي أو أكاديمي معتبر ضمن المراكز البحثية التي تعنى بمقاربة الحركات الإسلامية أو تعني بتفكيك الظاهرة الإرهابية، أو تسعى إلى تجديد الفكر الديني.ــــــــــــــــــــــــــــــ* بلال التليدي: كاتب وباحث في العلوم السياسية.
في تصوري، المراكز البحثية حتى وهي تقدم خدمة لدولة أو سلطة أو لوبي من اللوبيات، لا تنجح إذا انزاحت عن مهمتها البحثية بمستوياتها الثلاثة الوصفية والتحليلية والاستشرافية.. |