لا تُمثِّل كلمة “إسرائيل”، عند تيارات يمينية عديدة بالولايات المتحدة، مجرد اصطلاح سياسي بقدر ما هي رمز خطابي ديني يمكن من خلاله التأثير على الرأي العام الأميركي.
وقد تخطى سياسيون جمهوريون كثيرون حاجز الديني والسياسي ليُشكِّلوا رؤية واضحة بأن “إسرائيل” تُجسِّد رؤيتهم لنهاية التاريخ وآية لاقتراب الوعد الإلهي.
وتسيطر الحركة المسيحية الأصولية على الكثير من شبكات ومحطات الكنيسة المرئية والمسموعة، وبذلك تمارس الكنائس ذات التوجه الأصولي في أميركا دورا لا يُستهان به في السياسة، ولا يزال إلى يومنا هذا.
وفي هذا الصدد تأثر الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون” بالأفكار الصهيونية، واعتقد بأنه أُعطي فرصة لخدمة إرادة الرب في تحقيق وعده لليهود. وكان الرأي العام الأميركي مؤيدا لوعد بلفور.
أعطى هؤلاء المهاجرون أبناءهم أسماء يهودية من قصص التوراة، مثل: سارة وأليعازر وأبراهام وموسى، حتى إنهم سمّوا مدنا بأسماء عبرية مثل حبرون وصهيون وسالم وعدن وبيت لحم وكنعان.
ولعبت اللغة العبرية دورا مهما في المستوطنات الأميركية الأولى، بل إن أول كتاب نُشر في العالم الجديد هو سفر المزامير عام 1640 ثم كتاب النحو العبري عام 1735. وفي سنوات لاحقة قام الرحالة الأميركيون والحجاج بزيارات لفلسطين وذلك للإبقاء على روح وشاعرية القصص التوراتية، وفي عام 1814 قال “جون ماكدونالد” راعي الكنيسة المسيحية في مدينة “ألباني” بوجوب عودة اليهود إلى فلسطين، وإن الولايات المتحدة يجب أن تقودهم إلى ذلك.
كان هدف القس “ورد جريسون”، قنصل أميركا في القدس، إقامة وطن يهودي في فلسطين، وتجدر الإشارة إلى أنه عندما هاجر إلى فلسطين اعتنق اليهودية، وأنشأ مستوطنة زراعية ووطَّن فيها أميركيين يهودا وإنجيليين. بالإضافة إلى الحجاج والرحالة، أخرجت الكنائس البروتستانتية رؤساء يجسدون الحالة الصهيونية المسيحية، على سبيل المثال تعاطف الرئيس الأميركي “هاري ترومان” مع اليهود، وبحسب مستشاره “كلارك كليفورد” فإن اعترافه “بإسرائيل” نشأ عن اهتمامه الإنساني بشعب تحمَّل المعاناة طويلا.
أما الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون” فتأثر أيضا بالأفكار الصهيونية، واعتقد بأنه أُعطي فرصة لخدمة إرادة الرب في تحقيق وعده لليهود. وكان الرأي العام الأميركي مؤيدا لوعد بلفور، ولم توجد أصوات معارضة له إلا عند اليهود المعارضين للصهيونية.
وأيَّد الكونغرس الوعد تأييدا قاطعا، ولم يختلف عليه الجمهوريون والديمقراطيون. وتُشير “رِجينا الشريف” في كتابها “الصهيونية غير اليهودية” بأن المجلس لم يكتفِ بالتصويت، بل أتت إجاباته صهيونية بالأسلوب والمضمون، إذ استشهد كثير من أعضائه بالعهد القديم واقتبسوا من النبوءات التوراتية في وعد الرب بعودة اليهود إلى أرض فلسطين.
جاء “دونالد ترامب” وعلاقته الوثيقة باللوبي الإسرائيلي اليميني والحركة الصهيونية، إذ تصاعدت مع رئاسته أفكار الأصوليين ومعتقداتهم، وقدَّم لليهود الكثير من التنازلات.
من جهته، ضغط الرئيس الأميركي “فرانكلين روزفلت” على بريطانيا لإلغاء الكتاب الأبيض عام 1939، الذي نص على تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، معتبرا أن القرار ضد إرادة الله وتعطيل للنبوءات المقدسة. وفي عام 1952 تضاعف معدل المساعدات الأميركية لإسرائيل، وحظرت أميركا بيع الأسلحة للعرب، وحاولت إقناع الدول العربية بالتفاوض مع الدولة العبرية الجديدة. وفي السبعينيات، أكَّد الرئيس “جيمي كارتر” في خطاب له أمام الكنيست “الإسرائيلي” أن علاقة أميركا بإسرائيل علاقة خاصة متأصلة في أخلاق ومعتقدات الشعب الأميركي، ورأى أن إنجاز دولة إسرائيل إنجاز للنبوءة التوراتية وجوهرها.
ثم في مطلع الألفية مع رواج أفكار المحافظين الجدد شديدة التأثر بالمسيحية الصهيونية، رأى “جورج بوش” الابن أنه ينفذ إرادة الرب بـ”حروبه الصليبية”، وبرَّر سياسته بغطاء ديني، وبدا مقتنعا تماما بأن رئاسته خطة إلهية في لحظة شديدة خطرة وحساسة من تاريخ البشر. وأخيرا جاء “دونالد ترامب” وعلاقته الوثيقة باللوبي الإسرائيلي اليميني والحركة الصهيونية، إذ تصاعدت مع رئاسته أفكار الأصوليين ومعتقداتهم، وقدَّم لليهود الكثير من التنازلات منها الاعتراف بالقدس عاصمة “لإسرائيل” على عكس الموقف الأميركي الرسمي المُعتاد، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإغلاق مكتب تمثيل منظمة التحرير في واشنطن.
لقد استطاعت الحركة اليمينية التي انتشرت في بعض صفوف المسيحية البروتستانتية أن تعكس نبوءاتها على السياسة الأميركية وتحرك الرأي العام تجاه هذه النبوءات، واستطاع صناع القرار أن يستغلوا هذا الشعور الديني بما يخدم أيديولوجيتهم وسياستهم بصورة تجاوزت الحد الفاصل بين الديني والسياسي، ولا تزال قطاعات لا بأس بها من اليمين المسيحي في الولايات المتحدة ترى في “إسرائيل” تحقيقا للوعد الإلهي بالفعل، وصورة من صور آخر الزمان التي تُعجِّل بمجيء المسيح.