دخول المولى إدريس إلى المغرب
لقد دخل المولى إدريس، في أواخر القرن الثاني إلى المغرب، وقام بتأسيس دولته الكبيرة، مستفيدا من الولاء الذي يكنّه المغاربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، حيث تنازل له أمير “أوربة” عن الملك بعد أشهر من وصوله سنة 172 هجرية، واستطاع خلال سنتين أن يوحد المغرب، ويجمع شمله.( )
ولقد كان المولى إدريس من أهل المدينة المنورة، وعاصر الإمام مالكا رحمه الله، وهو وإن كان علويا في النسب، خارجا على سلطة العباسيين، فإن هذا لا يدل على أنه شيعي رافضي، فالتشيع لم يكن في ذلك الوقت بالنسبة للكثيرين، إلا قضية سياسية، وانتماء لعسكر المطالبين بحق آل البيت في الخلافة، ومناهضة للتسلط الذي بدأ ينشأ في رحاب الملك العباسي، فحب آل البيت ونصرتهم ومؤازرتهم وادعاء أحقيتهم بالخلافة هي عناصر التشيع في تلك المرحلة، وقصاراه تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما، وليس أكثر من ذلك. فكان لفظ الشيعة يطلق على جيش علي بن أبي طالب وأنصاره، في مقابل جيش الشام، الذي يتزعمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، في الفتنة المعروفة.
فبقي اسم الشيعة ملازما للمطالبين بأحقية علي بن أبي طالب وذريته في الخلافة، ومنهم إدريس بن عبد الله بن الحسن الذي فرّ من معركة فخ المشهورة سنة 172 ( )
التشيع الفارسي
يقول الدكتور محمد الحاجري: “في ذلك الوقت الذي دخل فيه التشيع إلى المغرب العربي، -أي في عهد الفاطميين- كان هذا المذهب قد تحول تحولا ظاهرا كبير الخطر، فلم يعد كما كان الشأن فيه في مبدأ أمره مجرد دعوة لأبناء علي وفاطمة، أو ثورة على الأمويين إذ غصبوهم حقهم، واستلبوا ما كان ينبغي فيما يرون أن يكون لهم، ثم تعقبوهم وجعلوا ينكّلون بهم، فإن اتجاه التشيع إلى المشرق، واتخاذه من بلاد الفرس موطنا له.. كل ذلك انحرف به عن نصابه الأول، وتحول به عن صورته الأولى، إذ أسبغ عليه ألوانا جديدة مشتقة من العقلية الفارسية بمواريثها المختلفة، وخلط ما بينه وبين هذه العقلية وصور إدراكها للإسلام”( )
وبعد أن أوضح بعض المعالم الجديدة في التشيع الفارسي قال: “وذلك هو التشيع الذي دخل المغرب العربي في أواخر القرن الثالث، ومن قبل دخل التشيع هذه البلاد مع إدريس بن عبد الله في أواخر القرن الثاني، ولكن ما أبعد ما بين التشيع الجديد والتشيع القديم: التشيع الفارسي والتشيع العربي.. فدولة الأدارسة لم تكد تفرض مذهبا معينا، أو أن ما فرضته من ذلك إنما كان في حدود ضيقة.. قبل أن يصطبغ التشيع بتلك الصبغة الباطنية، ويرتبط بالقومية الفارسية)( ).
والحق أن المولى إدريس لم يكن شيعيا إلا بالانتماء السياسي، وبكونه من المطالبين بأحقية أهل البيت في خلافة المسلمين، ولهذا لم ينشر في المغرب إلا الدعوة السنية النقية، حتى أسماه بعض المغاربة بالفاتح الثاني للمغرب.
يقول الدكتور سعدون عباس نصر الله: “ومما يثير الاستغراب أن الأدارسة كانوا علويين شيعة، والقضاء في دولتهم على المذهب المالكي”( ) ولم يدرك سبب هذا التناقض الذي أشكل عليه، فلو كان المولى إدريس شيعيا مذهبا لألزم الناس بمذهبه، إذ كانوا وهم أهل بادية، على أتم الاستعداد لقبول كل ما يأتي به المولى إدريس، وما الذي يحمله على تولية قضاة مالكيين، والمغرب الأقصى ما زال في ذلك الوقت أرضا بورا يقبل أي مذهب وصل إليه، لذلك حينما وصل أبو عبد الله الشيعي، غرس المذهب الشيعي ودعا الناس إليه، فقبِله كثير منهم، وهذا التناقض الذي أشكل عليه إنما يزول إذا عرفنا الفرق بين التشيع السياسي الذي كان في ذلك الوقت، والذي بيَّنا عناصره، وبين التشيع العقدي الديني الذي جلبه الدعاة الفاطميون.
يقول الأستاذ عبد الله كنون: “فعمل إدريس على إبلاغ الدعوة الإسلامية خالصة من الزيغ والانحراف إلى الجميع، واستنفذ الذين استهوتهم البدع والأهواء من الضلال، ووحد كلمة المغرب وقلوب أهله من يومئذ على مذهب السنة والجماعة، فلم يمل عنه بعد ذلك حتى يوم الناس هذا)( ) واستدل على أنه ليس من الشيعة بمؤازرة مالك وأبي حنيفة لخروج محمد بن الحنفية النفس الزكية على أبي جعفر، قال: (والحق أن قضية إدريس ونعني قضية العلويين بملابساتها المأساوية، وقوة حجتها، وأهمية من يناصرونها، من رجال العلم والدين، كالإمامين أبي حنيفة ومالك بن أنس، هي في غنية عن أن نلتمس لها الأسباب والعلل في شيعية كل من تطوع لخدمتها وتحمس لنصرتها…)( ) ولو كانوا شيعة لما آزرهم مالك رضي الله عنه وهو المعروف بمواقفه تجاه الشيعة.
الدرهم الإدريسي:
وقد استغل بعض الشيعة النقش الموجود على درهم الدولة الإدريسية، والذي كتب في أحد وجهيه كلمة: إدريس، وتحتها محمد رسول الله وتحتها كلمة علي. استغل ذلك لينسب إلى المولى إدريس رحمه الله أنه كان من الشيعة.
لكننا نقول: إن وجود كلمة علي على الدرهم، تدل على اعتزازه بنسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ أن هذا هو الشرف الذي استحق به الملك، فلذلك طبعه على درهم الدولة تقريرا لفضيلة هذا النسب، وتعزيزا للدعيمة التي قامت عليها مملكته.
ودلالة كلمة علي على الاعتزاز بالنسب مساوية من جهة الدلالة على المعنى الآخر، الذي هو تشيع الدولة الإدريسية، وإذا تساوت الدلالتان، فإننا ننظر إلى القرائن التاريخية التي من شأنها أن ترجح لنا أحد هذين المعنيين، وكل القرائن تدل على أن المولى إدريس لم يكن شيعيا، ولم ينشر في المغرب إلا المذهب السني.
بينما نجد أن تشيع الدولة الفاطمية قضية لا يناقش فيها عاقل، والأدلة التاريخية متضافرة على أنها دولة شيعية تتمسك بمذهبها وتنشره وتلزم به وتحكم على أساسه.
لذا فإن التشيع عندما دخل إلى المغرب على يد الفاطميين، بدأ يفرض على أتباعه الدخول في المذهب بالقوة، فأول ما فعل المهدي بعد أن استتب له الأمر: (أنه أمر يوم الجمعة أن يذكر اسمه في الخطبة، ويلقب بالمهدي أمير المؤمنين في جميع البلاد، فلما كان بعد صلاة الجمعة جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة، وأحضروا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم، وقتل من لم يوافق)( )، وهذا دليل كاف على أن المغاربة قبله لم يكونوا شيعة وإلا لما قتلهم، ودليل أيضا على أن المولى إدريس لم يكن يدعوا الناس إلى مذهب جديد ويقتلهم عليه، كما فعل المهدي الفاطمي.
بل يكفي للدلالة على أن المغرب لم يعرف التشيع قبل الدولة الفاطمية، أن هذه الأخيرة حاربت دولة الأدارسة، وهي التي باءت بوزر القضاء عليها وإسقاطها سنة 305 هجرية، ولو كانت الدولة الإدريسية شيعية لما تقاتلتا.
فهذه الأدلة وغيرها تدل بوضوح على أن المولى إدريس قد وحد المغرب على مذهب أهل السنة والجماعة، وجلب معه فقه المدينة المنورة التي قدم منها وعقيدة إمامها مالك بن أنس رحمه الله، لينعم المغرب في ظل هذه الدولة المباركة بالأمن سنين عديدة، بعد أن كانت حالته مضطربة أشد الاضطراب.