سنة الله في خلقه، حياة ثم ممات، وحكمته في كونه، قدوم وفوات، واقتضت الجبلة الآدمية على بني البشر النقص والهفوات، ولهذا شرع المولى الكريم، مواسم تمسح الذنوب والآفات، وتغسل الزلات، وتزيل العثرات، مواسم لجني الحسنات، والتخفيف من السيئات، ومن تلكم المواسم، شهر رمضان المبارك، الذي ينتظر قدومه المسلمون بكل لهف، ويتأمله المؤمنون بكل شغف، لينهلوا من بركاته، ويغترفوا من خيراته، فهو المعين الدافق، والنهر الخافق، فمن هو هذا الشهر الكريم؟
هو: الشهر التاسع في ترتيب الشهور التي هي عند الله اثنا عشر شهرا من يوم أن خلق الله السموات والأرض، وعلى الترتيب الذي أنشأه عمر رضي الله عنه.. قال تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” التوبة.
وهو: الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ” البقرة.
وهو: الشهر الذي جعل الله منه إلى رمضان ما بعده كفارة: جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر”.
وهو: الشهر الذي إذا دخلت أول ليلة من لياليه كان ما كان من الخير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة”، وفى رواية عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين” البخاري.
وهو: الشهر الذي جعل الله فيه لأصحاب الذنوب والخطايا المخرج، وكذلك لطالبى الجنة والعلو في الدين السناء والرفعة: فعند مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا: غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا: غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وهو: الشهر الذي جعل الله فيه ليلة هي خير من ألف شهر: فعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان” البخاري.
وهو: الشهر الذي جعل الله فيه العمرة كحجة معه صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم “عمرة في رمضان تعدل حجة” متفق عليه، وفى رواية: “فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي”، أي في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض. للإجماع على أن الاعتمار لا يجزيء عن حج الفرض. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وخلوص المقصد.
فحري بالمؤمن أن يستقبل هذا الشهر المبارك بالتوبة النصوح، وترك المحرمات، والعودة إلى رب البريات، بالإقلاع عن المعاصي في كل وقت وحين، ولا سيما في شهر الرحمة والغفران والعتق من النيران، فأي خسارة يخسرها المرء عندما يدخل عليه رمضان ثم يخرج ولم يزدد فيه حسنة، ولم يتقرب فيه من الله درجة، ذلكم هو الخسران المبين، قال صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد” البخاري.