مهّد الاحتكاك مع حركات الاحتلال الأوروبي وطلائع التنصير والثقافة الغربية لازدهار فنون جديدة كانت معرفة المسلمين بها محدودة أو غير واضحة مثل المسرح والسينما والأوبرا.. ومؤخرًا دراما التليفزيون، وكلها تقوم على العنصر الدرامي: (الحكاية والصراع في داخلها، أو الحوار بين شخوصها)، ومهمة هذه الفنون نقل الأفكار والتبشير بالتصورات غير المألوفة، وبذلك دخل المسلمون عن طريق الدراما إلى عالم جديد من القيم العلمانية التي تتصادم في الغالب مع القيم الإسلامية، حيث بشّرت الفنون الدرامية بقيم الاختلاط المطلق، والعري، والعلاقات الإباحية، والإلحاد، والانتهازية، والبقاء للأقوى وليس للأصلح، وتسويغ العنف والشر والرذيلة، والتبشير بالرجل الغربي بوصفه “السوبرمان” أو الرجل الأعلى القادر على فعل كل شيء، والتغلب على كل الصعاب التي تعترضه، فضلاً عن تأثيرها السلبي حين تُقدِّم صورة الرجل المسلم عموماً في إطار كئيب ورديء بوصفه ميّالاً للدعة والكسل، والكذب والقذارة والخيانة والنفاق، أو تجعله صنوًا للجهل والتحجر والجمود والتنطع والجهامة والقسوة، أو محلاً للسخرية والاستهزاء..
وفي إطار ذلك كله كان التركيز على عزل الإسلام بعيداً عن واقع الحياة والمجتمع في الأعمال الدرامية؛ بحيث بدا “ديناً كنسياً” يرتبط في الأذهان بالمسجد أو المقبرة فحسب!
وإذا نظرنا إلى نشأة المسرح في الزمن القديم عند الإغريق والرومان فسنجدها قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدين؛ ففي الأعياد المقدسة التي كانوا يقيمونها في المعابد كانوا يقومون بأداء التمثيليات أو المسرحيات أو الملاحم التي تعبر عن علاقتهم بآلهتهم المبتدعة، أو رغبتهم في تقديم الشكر لها وخاصة بعد الحصاد، والعديد من أصحاب الشرائع السماوية والأديان الوضعية يقومون في معابدهم حتى اليوم بتقديم ألوان من الفنون الدرامية والموسيقية تعبيراً عن عقائدهم أو قصص أنبيائهم أو علاقتهم بمن يعبدون ويقدسون.
وقد سجل المصريون القدماء على حوائط مقابرهم ومعابدهم بالرسم والكتابة لوناً من هذه الفنون التي تكشف عن طاعتهم لمعبودهم أو مصائرهم بعد الحياة الدنيا.
انسحبت مرجعية العلمانية على الفنون جميعاً، بما فيها الفنون الدرامية؛ حيث انغمست في التعبير عن العري والانحلال والرذيلة بصورة مكشوفة وسافرة، وكأنها تدعوه للإباحية والشر والعنف، وقد ضجت بعض المجتمعات الأوروبية سخطاً وغضباً على بعض الكتَّاب والشعراء كما في فرنسا حين ثارت الكنيسة على رواية “مدام بوفاري”، وديوان “أزهار الشر” لبودلير في القرن الماضي، ولكن المسألة اليوم تعدت الرواية والديوان المذكورين إلى إنتاج الأفلام الإباحية الصريحة التي تسمى بالأفلام الزرقاء على نطاق واسع، وأصبحت المرأة تظهر عارية تماماً في العديد من المسرحيات، كما أصبحت مشاهد الجنس الكاملة موجودة في معظم المسلسلات التليفزيونية .
وقد انتقل إلى بلادنا العربية المسلمة شيء كثير من هذا، وصار الدفاع عنه مبررا تحت راية حرية الإبداع وحرية التعبير، وكأن حرية الإبداع أو حرية التعبير تعني إسقاط كل القيم وثوابت المجتمع وعدم مراعاة خصائص الأمة وأخلاقها ومرجعيتها الأساسية.
وقد عارضت الأمة في مجموعها هذا التوجه معارضة فعالة، ورفضت العلمانية، وأعلنت تمسكها بدينها ومقدساتها.
إن الفنون الجميلة تحولت إلى فن شيطاني خبيث يدعو إلى الرذيلة والشر والعنف، وتسلخ الإنسان عن هويته وقيمه وعقيدته وأخلاقه.
وللأسف الشديد؛ فإن معظم ما أوحت به العلمانية وما أنجزته كان مخاطبة الجزء الأسفل من الإنسان، أي مخاطبة الغرائز دون مخاطبة القيم، وهي كارثة بكل المقاييس.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (نقلا عن مجلة البيان، ندوة العلمانية والفن، بتصرف).