تسلية وترويح

سيد الكافة
حدث الأصمعي قال: وقعت حرب بالبادية، واتصلت بالبصرة، وتفاقم الأمر فيها حتى مشى الناس في الصلح بين الحيين، فاجتمعوا في المسجد الجامع، قال: فبعثت وأنا حينئذ غلام إلى القعقاع بن الضرار الدارمي فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فوجدته في شملته يخلط بزراً فخبرته مجتمع القوم، فأمهل حتى أكل العنز، ثم غسل الصفحة وصاح: يا جارية غدينا، فأتته بتمر وزيت. قال فدعاني لآكل معه فأكلت، حتى إذا قضى أربه من الأكل، وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل منه يده، ثم استسقى ماءً فشربه، ثم مسح فاضله على وجهه ثم قال: الحمد لله ماء فرات وتمر البصرة وزيت الشام، متى يؤدى شكر هذه النعمة؟ ثم أخذ رداءة وارتدى به على تلك الشملة. قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه. فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاماً له. ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء من الديات في ماله فنهض وهو سيد الكافة بفضله.
أسيد بن عنقاء الفزاري وعُميلة الفزاري
عن الأخفش الصغير قال كان أسيد بن عنقاء الفزاري من أكبر أهل زمانه قدرا وأكثرهم أدبا وأفصحهم لسانا وأثبتهم جنانا، فطال عمره.. فخرج عشية ينتفل لأهله فمر به عُميلة الفزاري فسلم عليه وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصون وجهي عن مسألة الناس، فقال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أرى من حالك، فرجع بن عنقاء إلى أهله فأخبرها بما قال له عُميلة، فقالت له: لقد غرك كلام غلام في جنح الليل، قال: فكأنما ألقمت فاه حجرا، وبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا، قالوا: عُملية قد قسم ماله شطرين وبعث إليك بشطره فأنشأ يقول:
رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى *** إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ **** عَلَى حِين لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ *** وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا *** لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ *** وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ *** ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ *** فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه *** تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
حكم ومواعظ
من صفات الرجال
يجب للرجل أن يكون سخيا لا يبلغ التبذير، شجاعا لا يبلغ الهوج، محترسا لا يبلغ الجبن، ماضيا لا يبلغ القحة، قوالا لا يبلغ الهذر، صموت لا يبلغ العية، حليما لا يبلغ الذل، منتصرا لا يبلغ الظلم، وقورا لا يبلغ البلادة، ناقدا لا يبلغ الطيش.
القناعة
قال علي بن عبيدة: القناعة نعمة جسيمة، ورزق واسع، وحصن حصين، وألفة دائمة، وراحة عظيمة، وعيش صاف، ودعة للبدن، وعزة للنفس، وصيانة للعرض، وحياة طيبة، وسلامة وعافية فإن وفق صاحبها للصواب في التمييز، واختيار ما يستحق به الاصطفاء صفا من الشكوك وعصمة الله (والله لا يحب كل مختال فخور).
لا تعجل
تأمل ولا تعجل بأمر تريده *** فإن الفتى من أمره ما تأملا
ساعة عون على الساعات
وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوباً على نفسه، أن لا يشغلهُ شغلٌ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يرفعُ فيها حاجتهُ إلى ربهِ، وساعةٍ يحاسبُ فيها نفسهُ، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانهِ وثقاته الذين يصدقونه عن غيوبهِ ويصونوهُ في أمرهِ، وساعةٍ يُخلي فيها بين نفسهِ وبين لذتها مما يحل ويجملُ، فإن هذه الساعةَ عونٌ على الساعات الأخرِ، وإنّ استجمام القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضل بلغةٍ.
الأدب العظيم
كلامُ اللبيبِ، وإن كان نزراً، أدبٌ عظيمٌ، ومقارفةُ المأثم، وإن كان محتقراً، مصيبةٌ جليلةٌ. ولقاءُ الإخوانِ، وإن كان يسيراً، غُنْم حسنٌ.
ماذا ينفع
لا ينفع العقلُ بغير ورعٍ، ولا الحفظُ بغيرِ عقلٍ، ولا شدةُ البطشِ بغير شدة القلب، ولا الجمالُ بغيرِ حلاوةٍ، ولا الحسبُ بغير أدبٍ، ولا السرورُ بغير أمنٍ، ولا الغنى بغير جُودٍ، ولا المروءةُ بغير تواضعٍ، ولا الخفض بغير كفايةٍ، ولا الاجتهادُ بغير توفيقٍ.
لا تفرح بالبطالة
اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليكَ، ولا تفرح بالبطالةِ، ولا تجبن عن العملِ.
الرأي والهوى عدوان
وعلى العاقلِ أن يجبنَ عن المضي على الرأي الذي لا يجدُ عليه موافقاً وإن ظن أنهُ على اليقينِ.
وعلى العاقلِ أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأنِ الناسِ تسويفَ الرأي وإسعافَ الهوى، فيخالفَ ذلك ويلتمس أن لا يزال هواهُ مسوفاً ورأيه مسعفاً، وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمرانِ فلم يدرِ في أيهما الصوابُ أن ينظر أهواهما عندهُ، فيحذرهُ.
أشياء غير ثابتة
وقيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاءٌ: ظل الغمامِ، وخلة الأشرارِ، وعشق النساء، والنبأ الكاذبُ، والمالُ الكثيرُ.
وليس يفرحُ العاقلُ بالمالِ الكثير، ولا يحزنهُ قلتهُ. ولكن مالهُ عقلهُ وما قدم من صالحِ عملهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: القتَب، بالتحريك: رَحْلٌ صغير على قدر السَنام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *