روى الإمام مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: «كنا نُخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق». (الموطأ 2/234 بشرح الزرقاني، وانظر نحوه في: أوجز المسالك 6/196).
قال الزرقاني: «زاد في رواية: فلا تنكره علينا، لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو يُنظر لها بقصد لذة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أَنْ تغطي رأسها، وتستر شعرها، إلا وجهها، فَتُسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولا تُخَمِّر، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، فذكر ما هنا، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا، كما جاء عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مُرَّ بنا سَدَلْنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزْنا رفعناه» اهـ.
ففي حال الإحرام بالحج لا تلبس المرأة النقاب لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، ولكن تُسدل عليها الثوب سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال.
– وقال الحطَّاب في مواهب الجليل شرح مختصر خليل 1/499: «واعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين. قاله القاضي عبد الوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زرّوق في شرح الرسالة، وهو ظاهر التوضيح. هذا ما يجب عليها» اهـ.
ـ وقد كتب البناني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل 1/176، ونحوه في حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1/289 ما يلي: «قول الزرقاني: إلا لخوف فتنة، أو قصد لذة فيحرم، أي النظر إليها، وهل يجب عليها حينئذٍ ستر وجهها ؟ وهو الذي لابن مرزوق في اغتنام الفرصة قائلا: إنه مشهور المذهب، ونقل الحطاب أيضًا الوجوب عن القاضي عبد الوهاب، أو لا يجب عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره، وهو مقتضى نقل مَوَّاق عن عياض. وفصَّل الشيخ زروق في شرح الوغليسية بين الجميلة فيجب عليها، وغيرها فيُستحب»اهـ.
ـ وقال ابن العربي المعافري: «والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعنُّ ويعرض عندها» (أحكام القرآن 3 / 1579). قال محمد فؤاد البرازي: الراجح أن صوت المرأة ليس بعورة، أما إذا كان هناك خضوع في القول وترخيم في الصوت فإنه محرم كما سبق تقريره.
ـ وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (12/229): «قال ابن خُويز منداد -وهو من كبار علماء المالكية-: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك؛ وإن كانت عجوزًا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها» اهـ.
وقد أوجب فقهاء المالكية على المرأة المُـحْرِمة بحج أو عمرة ستر وجهها عند وجود الرجال الأجانب.
– قال أحمد النفراوي في الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني 1/431 في باب الحج والعمرة: «واعلم أن إحرام المرأة حرة أو أَمَةً في وجهها وكفيها. قال خليل: وحَرُمَ بالإحرام على المرأة لبس قُفَّاز، وستر وجه إلا لستر بلا غرز ولا ربط، فلا تلبس نحو القفاز، وأما الخاتم فيجوز لها لبسه كسائر أنواع الحلي، ولا تلبس نحو البرقع، ولا اللثام إلا أن تكون ممن يخشى منها الفتنة، فيجب عليها الستر بأن تسدل شيئًا على وجهها من غير غرز ولا ربط». اهـ باختصار يسير.
11ـ وقال الشيخ الدردير (الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 2/54، 55): «حَرُمَ بالإحرام بحج أو عمرة على المرأة ولو أَمَة أو صغيرة ستر وجه، إلا لستر عن أعين الناس فلا يحرم، بل يجب إن ظنت الفتنة..» اهـ.
نستخلص من النصوص السابقة المأخوذة من المراجع المعتمدة عند المالكية أنه:
ـ يُسَنُّ للمرأة أن تستر وجهها عند تحقق السلامة والأمن من الفتنة، وعند عدم النظر إليها بقصد اللذة.
ـ أما إذا علمت أو ظنت أنه يُخشى من كشف وجهها الفتنة، أو ينظر لها بقصد لذة، فيصير وجهها عورة يجب عليها حينئذٍ ستره، حتى ولو كانت محرمة بحج أو عمرة. هذا هو مشهور المذهب كما حكاه ابن مرزوق. ولا شك أننا في زمن تحققت فيه الفتنة، وانتشرت في أطرافه الرذيلة، وامتلأت الطرقات بالمتسكعين الذين يتلذذون بالنظر إلى النساء، فلا يجوز -والحال على هذاـ عند المالكية أنفسهم، ولا عند المذاهب الثلاثة الأخرى خروج المرأة كاشفة عن وجهها، بل يجب عليها ستره. (مشروعية النقاب في الكتاب والسنة والمذاهب الفقهية الأربعة؛ الشيخ أشرف بن عبد المقصود؛ بتصرف).