وتتكرر على أهل الطهر الهجمات، كما تستمر الغارات على أهل العفاف، وتتوالى الكتابات المسيئة إلى آداب الإسلام وأخلاقه؛ فقد نشرت جريدة الأحداث في عددها 2825 الصادر يوم 27 أكتوبر 2006 مقالا يقطر حقداً وجهلاً، عنوانه: (النقاب قيد على الوجه والعقل والبدن)!!
فماذا عساني أن أقول وقد سلِمت من أقلام هؤلاء المتهتكاتُ المنحلاّت، عاريات الصدور والأفخاذ، هادمات العفاف، وبائعات الشرف بأرخص الأثمان، ولم تسلم منها المحجبات.
والإنصاف أن هؤلاء الأخيرات لو اقترفن ذنبا لما استحققن أن تشن عليهن الحروب تلو الحروب، ولكان الأولى استنكار سلوكيات الأخريات العاريات ووعظهن، حتى يرجعن إلى شرع ربهن، فقد عمت بهن البلوى في كل مكان.
فماذا ينقم العلمانيون على من لبست الحجاب وغابت عن ميادين الفحش والفساد، ونأت عن أسواق بيع الأعراض، واختفت عن أنظار الذئاب، وانفلتت من بين مخالبهم والأنياب، وأقبلت على دينها، ترجو رحمة ربها وتخاف عذابه. فهل كان لها جرم إلا أنها كفت الناس شرها وفتنتها؟ وحرَمت بني علمان من التمتع بها رخيصة في الحفلات والسهرات الصاخبة، ومنعتهم من جعلها لعبة في أيديهم يتفكهون بها ويلعبون. وما مثل هؤلاء في عيبهم إلا كمثل قوم لوط حين قالوا عن لوط وأصحابه: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف 82).
قال قتادة في تفسيرها: “عابوهم بغير عيب”.
قلت: ولهؤلاء أن يقولوا: إنهن نساء يتحجبن.
ولي مع فِرى الكاتب وقفات:
الفرية الأولى قوله: “الإسلام لا يوجد فيه أمر واحد بالنقاب”. هذه مجازفة جاهل، والحق أن النقاب أدب شرعي حث عليه الإسلام، وتناقلت الوصية به أفاضل الأنام، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأخرجته إلى أرض التطبيق والواقع نساؤهم، وعملن به في زمن صاحب الشريعة، بدءاً بنسائه عليه السلام، ومرورا بعهد الأمويين والعباسيين ومن بعدهم، وانتهاء بزماننا في كافة البلاد الإسلامية على اختلاف شكل النقاب فيها حسب التقاليد والأعراف، ولا نزال نرى هذا المظهر الأصيل (الجلابة المغربية والنقاب= الحايك) عند بعض النساء على رغم أنوف الحاقدين.
وإنما اختلف العلماء في درجة مشروعيته؛ فبعضهم أوجبه، وبعضهم اكتفى بالقول باستحبابه، ولا يوجد من علماء الشريعة من أنكره.
وسأكتفي بعرض بعض الأدلة على مشروعية النقاب، دون التعرض للخلاف الواقع في استحبابه ووجوبه.
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَأَيهَا النَّبىُّ قُل لأَزْوَجِك وَ بَنَاتِك وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذَلِك أَدْنى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(59) الآية 59 من سورة الأحزاب.
قال أبو بكر الجصاص المالكي: “في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار السترِ والعفافِ عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن”.
وقال الشنقيطي: “فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: ((يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ))، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسّرين: إنه يستلزمه، معارَض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: ((يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ))، يدخل في معناه ستر وجوههنّ بإدناء جلابيبهنّ عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: ((قُل لأزْواجِكَ))، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدلّ على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى”.
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ . الآية 31 من سورة النور.
قال ابن جرير في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ): “ولا يُظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهنّ، وهما زينتان: إحداهما: ما خفي وذلك كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد، والأخرى: ما ظهر منها، وذلك مختلف في المعنيّ منه بهذه الآية، فكان بعضهم يقول: زينة الثياب الظاهرة”.
ثم ساق الأسانيد الكثيرة عن ابن مسعود، أنه قال: الزينة زينتان: فالظاهرة منها الثياب، وما خفي: الخَلْخَالان والقرطان والسواران. كما ساق أسانيد القول بهذا إلى كثير من السلف كإبراهيم النخعي والحسن البصري وابن سيرين وأبي الجوزاء وغيرهم.
فهؤلاء الأئمة، لا يبيحون للمرأة كشف وجهها، لأنه من الزينة التي نهيت عن إبدائها.
وقد رجح هذا القول جماعة من المفسرين، منهم الإمام الشنقيطي المالكي رحمه الله حيث قال: “أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه.. وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدُها عن أسباب الفتنة، وأطهرُها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها، ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها؛ كما هو معلوم، والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي”.
فهذا هو العلم، لا الأقاويل المبنية على غير أساس، والأراجيف الخالية من الأدلة إلا من السباب والشتم.
فدع عنك الكتابة لست منها***ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى: {قلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ}(الأنعام 148) (وإن أنتم إلا تخرصون) أي وإن أنتم إلا تكذبون.
أما من السنة:
فدونك هذه الأحاديث التي تدل دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد أقره:
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قالت: (..فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان ابن المعطل السلمي من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فسترت وجهي عنه بجلبابي..) الحديث.
الدليل الثاني: عنها رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها..).
الدليل الثالث: عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال).
الدليل الرابع: عن صفية بنت شيبة قالت: (رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة).
الدليل الخامس: عن عبد الله بن عمر قال: لما اجتلى النبي صلى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة منتقبة وسط الناس فعرفها).
وقد استن بهن فُضْليات النساء بعدهن وإليك مثالا على ذلك:
عن عاصم الأحول قال: (كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به).
[انظر تخريج هذه الآثار في كتاب: جلباب المرأة المسلمة للعلامة الألباني]
وقد علق الشيخ الألباني على هذه الأحاديث قائلا: “فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود وإن كان لا يجب ذلك عليها بل من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج”.
الفرية الثانية: تأريخه للنقاب في المجتمع المسلم، حيث زعم أنه من اختراع الأمويين والعباسيين لظروف أمنية!
ويكفي لرد هذه الأكذوبة السافرة ما تقدم ذكره من إجماع العلماء على مشروعية النقاب، وأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن كن منتقبات ساترات لأوجههن.
الفرية الثالثة: زعمه أن المرأة المنتقبة تعيش في عزلة عن الحضارة والعلم والحياة.
أقول: إن كانت الحضارة هي خروج المرأة سافرة متبرجة، ليس لها همّ إلا أن تكسب أكبر عدد من الأعين الرامقة لها -ولا شك أن هذا هو مفهومها في القاموس العلماني- فهي سفول وحدارة.
إن النقاب لا يتنافى أبدا مع تأدية المرأة لأعمال تخدم مجتمعها المسلم، ولن يضر العقلَ ثوبٌ على الرأس والوجه، ويكفي أن نستحضر ما كان لنساء الصحابة من إسهامات في أنشطة متعددة، وأعمال مختلفة.
وجدير بذات التستر أن تتقدم بمجتمعها، وتشارك في العلم والحياة مشاركة إيجابية، حيث أُمنت الفتنة من جهتها، فهي تظهر في لباس محتشم يقطع الأطماع، ويصدّ الأتباع، وأما المتبرجة المبدية مفاتنها فهي غالبا ما تؤدي أعمالها وهي معرضة لمراودات الذئاب، وتتبُّع الكلاب، وإذاية الفساق بالقول وربما بالفعل أيضا، مما يؤثر سلبا على عملها، ويفقدها الطمأنينة فيه.