عمل كثير من الناس على تحريف الكلم عن مواضعه, وليّ أعناق النصوص بشتى أنواع التمحلات, وسموا عملهم هذا تأويلا, ليروج على من لا يدرك الباطل الذي جاءوا به, فأفقدوا النصوص الشرعية هبتها, وجعلوها لعبة في أيديهم, فكان لبُوسُ التأويل باب شر عظيم, وََلَج منه من أراد هدم أحكام الدين, وتعاليمه وأصوله وفروعه.
ولذلك نص العلماء على أن التأويل الباطل كان جناية على الإسلام وأهله, بل جناية على سائر الأديان, وقد قرر ابن القيم رحمه الله أن التأويل أصل خراب الدين والدنيا, فما اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل, وأعداء الإسلام سُلطوا علينا بالتأويل, ودماء المسلمين إنما أريقت بالتأويل” انظر إعلام الموقعين 4/317-319.
التأويل لغة واصطلاحا
أما في اللغة, ففي “لسان العرب” 1/130: “الأول الرجوع, آل الشيء يؤول ومآلا رجع, وأول إليه الشيء: رجعه”.
أما في الاصطلاح فيطلق ويراد به: التفسير أو ما تأول إليه حقيقة الشيء.
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “وفي التأويل وجهان أحدهما: التفسير والثاني: العاقبة المنتظرة” زاد المسير 1/354.
أما في اصطلاح المتأخرين هو “صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك” الفتاوى 5/35.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعدها حكى هذا النوع من التأويل “وتسمية هذا تأويلا لم يكن في عرف السلف وإنما سمي هذا وحده تأويلا طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام” الفتاوى 4/69.
تأويل هو أو تحريف
صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال مرجوح بدليل صحيح صريح هو تأويل مقبول بشرط “أن يكون المُتَأَوِّلُ أهلا لذلك” قاله الآمدي رحمه الله في الإحكام 3/75.
وإن كان قد يعذر بتأويله عند الخطأ إذا كان التأويل سائغا في لغة العرب وكان له وجه علمي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب, وكان له وجه في العلم” الفتح 12/318.
أما إذا كان بدليل فاسد, أو بلا شيء فهو لعب وتحريف للكلم عن مواضعه، وخروج بالقرآن والسنة إلى معان باطلة.
يقول الزركشي رحمه الله التأويل اصطلاحا: “صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله, ثم إن حمل لدليل فصحيح, وحينئذ فيصيروا المرجوح في نفسه راجحا, أو لما يظن دليلا ففاسد أو لا لشيء فلعب, لا تأويل” البحر المحيط 3/437.
قلت: وصنيع العلمانيين والمبتدعين, وكثير من أهل الأهواء من هذا الباب الأخير من التأويل المتعسف الفاسد, الذي جعلوه ملاذهم وملجظاهم, ليضعوا هلى أعمالهم الصبغة الشرعية.
ولتمرير أفكارهم ومعتقداتهم التابعة للفلسفات البشرية والأهواء الشخصية القائمة على التوهمات, والتحليلات, والأقيسة العقلية الفاسدة التي أوحى بها إليهم شياطين الإنس من المستشرقين الغربيين, ليرعموا بها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الأمة خلفا بعد سلف!
والباعث لهؤلاء على هذا التأويل أنهم ضاقوا ذرعا بمن ينادي بالتمسك بالقرآن والسنة, والأخذ بأحكام الدين, والعمل بها في كل مكان وزمان, فافتروا على الله الكذب والبهتان, لجعل اليقينيات ظنيات, والقطعيات محتملات, والثوابت متغيرات, والمسلمات والبدهيات قابلة للأخذ والرد والجدال, والتقول والقيل والقال, والله المستعان.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين، فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه, وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد, وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام” الفتاوى الكبرى13/244.
وقال كذلك رحمه الله بعد ما ذكر هذا النمط من التأويل: “هذا التأويل في كثير من المواضع –أو أكثرها وعامتها- من باب تحريف الكلم عن مواضعه, من حسن تأويل القرامطة والباطنية, وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه, وصاحوا بأهله من أقطار الأرض, ورموا في أثرهم بالشهب” الفتاوى 3/69.
وقال في موضع آخر: “هذا التأويل المذموم الباطل هو تأويل أهل التحريف والبدع, والذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك..” الفتاوى 36/67.