من أصول مذهب مالك رحمه الله القياس الشرعي كما قال أبو كف أحمد المحجوبي الشنقطي في نظمه:
ثمت إجماع وقيس وعمل مدينة الرسول أسخى من بذل
وتظهر أهمية هذا الأصل في أنه “أكمل الرأي وهو مجال الاجتهاد، وبه تثبت أكثر الأحكام، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواضع الإجماع معدودة، والوقائع غير محصورة، فاضطر العلماء1 إلى أن يثبتوا عنها بالقياس لعالم يثبت بنص أو إجماع” تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي المالكي رحمه الله بتصرف يسير 134.
وعليه فإذا لم يجد المجتهد النص على الحكم توجه إلى القياس كما قال الشاعر:
إذا أعيا الفقيه وجود نص تعلق لا محالة بالقياس
وقال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 657-مع شرحه:
الأخذ بالقياس مضطر له وجل أهل العلم يقفو سبله
وإنما نؤثره اتباعا إذا عدمنا النص والإجماعا
وهو حجة عند الجمهور ومنهم الإمام مالك رحمه الله خلافا للظاهرية كما قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 657-مع شرحه:
وأنكر القياس أهل الظاهر2 ورأيهم في ذاك غير ظاهر
وقال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “وهو (أي: القياس) حجة عند مالك رحمه الله، وجماهير العلماء رحمة الله عليهم خلافا لأهل الظاهر، لقوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ولقول معاذ رضي الله عنه: (أجتهد رأيي بعد ذكره الكتاب والسنة)3” شرح تنقيح الفصول 385.
وقال ابن القصار المالكي رحمه الله: “دل الكتاب على الاستنباط والاستدلال في غير موضع، قال عز وجل: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، فكان ذلك دليلا على الانتزاع من الأصول وإلحاق المسكوت عنه بالمذكور على وجه الاعتبار، وهذا هو باب القياس والاجتهاد4، وأصله في الكتاب..” مقدمة في أصول الفقه 8.
وقد استعمل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم القياس بكثرة مما يدل على أنه مصدر من مصادر التشريع ثابت عندهم بالإجماع5 والأمثلة في ذلك كثيرة ومنها ما ذكره الباجي المالكي رحمه الله في إحكام الفصول ص:581 وما بعدها، وانظر الفكر السامي 1/69، حتى قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله: “وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي، والقول بالقياس على الأصول عند عدمها ما يطول ذكره” جامع بيان العلم 2/76.
وقال أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله: “القياس أصل من أصول الشريعة، ودليل من دلائل الملة، انقرض عصر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وهم الأعيان والجلة على حجة القول به” المحصول في علم الأصول 3/259.
والقياس في اللغة: التقدير والتسوية. انظر لسان العرب 6/186 وغيره.
وأما في الاصطلاح فعرف بعدة تعاريف منها قول أبي عبد الله الشريف التلمساني المالكي رحمه الله: “إلحاق صورة مجهولة الحكم، بصورة معلومة الحكم، لأجل أمر جامع بينهما يقتضي ذلك الحكم” مفتاح الوصول 158.
والمعنى أن القياس إلحاق واقعة -غير منصوص عليها وتسمى الفرع- بأصل منصوص عليه لمساواته له في علة الحكم، ومثاله إلحاق حرمة النبيذ بحرمة الخمر لعلة الإسكار.
يقول الناظم:
وحيثما فرع بأصل ألحقا في حكمه لجامع قد حققا
فذلك القياس عند الناس فاحفظ وقاك الله كل باس
مثاله النبيذ بالخمور ألحق للإسكار في المسطور
جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس المالكي الأبر 45.
ومن خلال تعريف القياس اصطلاحا نستخلص أركان القياس وهي أربعة:
الأول: المقيس عليه (الأصل)، وهو محل الحكم المشبه به كالخمر مثلا.
الثاني: حكم الأصل، كتحريم الخمر.
الثالث: الفرع (المقيس) وهو محل الحكم المشبه وهو كالنبيذ مثلا في قياسه على الخمر.
والرابع: العلة وهي الوصف الجامع بين المقيس والمقيس عليه كالإسكار في قياس النبيذ على الخمر.
قال الناظم:
قست كذا أو عليه أو إليه قدرت وساويت حكوا
وهو في الأصول رد الفرع لأصله بعلة للجمع
في الحكم فالقياس ذو أركان أربعة تنظم كالجمان
الأصل والفرع وحكم الأصل وعلة الحكم فعوا ما أملي
فالأصل جلهم محل الحكم أعني المشبه به في النظم
والفرع ما شبه من محل بأصله في الحكم عند الجل
والعلة الوصف المناسب لأن يرتب الحكم عليه فاعلمن
درر الأصول في أصول فقه المالكية 76 لمحمد المختار بن بونة الشنقيطي.
وللبحث بقية…
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ولذا فمعرفة القياس من أهم شروط المجتهد إذ لا يمكنه أن يستنبط حكما شرعيا لحوادث متجددة إلا بالقياس، لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: “من لم يعرف القياس فليس بفقيه” عن المهذب في علم أصول الفقه المقارن للنملة 4/1809.
2. ولا يعني هذا أنه لا عبرة عندهم بالعلل المنصوصة، إلا أن مذهبهم أنها خاصة بالأحكام المنصوص عليها لا تتعداها، أي: أن العلة عندهم قاصرة (وتسمى بالعلة الواقفة) لا تتعدى النص الواردة فيه، وفي ذلك قال ابن حزم رحمه الله: “إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام عليها” الإحكام في أصول الأحكام 8/86.
3. حديث معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد بالرأي رواه أحمد وأبو داود والترمذي رحمه الله وأسهب الشيخ الألباني رحمه الله في الكلام على طرقه وحكم بنكارته، وضعفه ابن الجوزي وابن عدي في آخرين عليهم رحمة الله كما في السلسلة الضعيفة 2/273 فما بعدها، وممن صححه ونص على أنه في درجة القبول أبو بكر الرازي وابن العربي المعافري المالكي والخطيب البغدادي رحمة الله عليهم جميعا في آخرين، وقد انتصر لثبوته الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 1/202 فما بعدها.
4. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “وقال بعض الفقهاء القياس هو الاجتهاد، وهو خطأ لأن الاجتهاد أعم من القياس، لأنه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الألفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس” المستصفى 2/229.
5. أثبت الصحابة رضي الله عنهم القياس قولا وعملا في وقائع كثيرة دون نكير بينهم وهذا من أقوى الحجج كما قال الآمدي رحمه الله: “الإجماع أقوى الحجج في هذه المسألة” الإحكام له 4/52.